شخصية الإمام الجواد(ع)
ولد الإمام الجواد في المدينة المنورة سنة (195هـ)، والمشهور بين المؤرخين أن ولادته في (19 رمضان)([1])، وذهب بعضهم إلى أنها في (رجب)([2])، وقد صرّحت بعض الأدعية بالأخير، فقد جاء: “اللهم إني أسألك بالمولودين في رجب محمد ابن علي الثاني، وابنه علي بن محمد المنتجب”([3]).
أبوه الإمام علي بن موسى الرضا(ع)، وأمه سبيكة، وكان اسمها درّة، وقد سمّاها الإمام الرضا بعد ذلك بـ(خيزران)([4])، وهي - على ما قيل - من آل مارية القبطية زوج النبي(ص)([5]).
وكانت امرأة فاضلة تمتعت بفضائل أخلاقية سامية، وكانت أفضل نساء عصرها([6])، حتى قال الإمام الرضا(ع) في حقها: “قُدست أمّ ولدته - أي الجواد - قد خلقت طاهرة مطهرة”([7]).
كانت ملامحه (ع) كملامح آبائه التي تحكي ملامح الأنبياء، فأسارير التقوى بادية على وجهه الكريم، وقد وصفته بعض المصادر بأنه كان أبيضاً معتدل القامة([8]).
يكنّى بأبي جعفر الثاني تمييزاً له عن جده الإمام الباقر الذي كان يكنّى بأبي جعفر أيضاً، ولقّب بالجواد، لكثرة ما أسداه من الخير والبر والإحسان إلى الناس، كما لُقِّب بالتقي، والمرتضى، والرضي، والمختار، والمتوكل، والزكي، وباب المراد، وقد عُرف بالأخير بين عامة المسلمين لقناعتهم بأنه باب من أبواب الرحمة الإلهية([9]).
تولّى منصب الإمامة بعد شهادة أبيه الرضا(ع)، وكان في الثامنة أو السابعة من عمره، وكان ذلك في سنة (203هـ)، وكانت ظاهرة الإمامة المبكرة لأهل البيت غير مألوفة للشيعة، فضلاً عن غيرهم فأوجبت إمامته بهذا السن المبكر اضطراباً بين بعض رجالات الشيعة، فأظهر الله المعجزات القاطعة، والبراهين الساطعة والحجج الباهرة، والبينات النيرة، مما قوي به موقف الفكر الإسلامي، فأجلّه وسلّم بفضله جميع من عرفه فضلاً عن شيعته ومحبيه.
وقد نقل الشيخ المفيد روايات كثيرة ومتواترة في النص من الإمام الرضا(ع) على إمامته، وبعد أن ذكر عدداً من رواة النص قال: “في جماعة كثيرة يطول بذكرهم الكتاب”([10]).
عاصر الجواد(ع) في تمام فترة إمامته خليفتين عباسيين، هما (المأمون 193-218هـ) و(المعتصم 218-227هـ)، وقد دامت إمامته (17 سنة).
استشهد(ع) في آخر ذي القعدة سنة (220هـ) ببغداد متأثراً بسم دسه إليه المعتصم على يد زوجته أم فضل، ودفن في مقابر قريش في بغداد إلى جانب قبر جده الإمام الكاظم(ع)([11]).
نشأة ظاهرة الإمامة المبكرة عند الشيعة:
كان الإمام الجواد(ع) أول إمام يبلغ الإمامة في طفولته، فمن الطبيعي أن يكون مثاراً للتساؤل والجدل بين صفوف الشيعة، وغيرهم من المسلمين، حيث كيف يمكن لحدث أن يتحمل مسؤولية ومهمة إمامة وقيادة المسلمين الحساسة والكبيرة؟! ويُشبع الساحة فكرياً وسياسياً ودينياً، فهل يمكن أن يبلغ إنسان وهو بذلك العمر إلى الكمال الذي يجعله خليفة رسول الله؟!
يتبين من خلال دراسة حياة الأئمة أنهم كانوا يواجهون هذا الأمر، ولا سيما في عهد الجواد(ع)، وكانوا يدحضون التشكيكات بما نصّ عليه القرآن الكريم من نبوة يحيى وهو صبي، قال تعالى: «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» ([12]).
ونبوة عيسى وهو في المهد، قال تعالى:« قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا» ([13]).
وفي هذا الصدد ننقل ثلاث روايات:
الرواية الأولى: عن علي بن أسباط قال: قدمت المدينة، وأنا أريد مصر، فدخلت على أبي جعفر محمد بن علي الرضا(ع)، وهو إذ ذاك خماسي، فجعلت أتأمّله لأصفه لأصحابنا بمصر، فنظر إليّ، وقال: يا علي إنّ الله أخذ في الإمامة كما أخذ في النبوة، فقال سبحانه في يوسف:« وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً» ([14]).
وقال عن يحيى:« وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» ([15])([16]).
الرواية الثانية:يقول بعض أصحاب الإمام الرضا(ع): كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن الرضا بخراسان، فقال له قائل: يا سيدي إن كان كون فإلى من؟ قال: إلى أبي جعفر ابني. فكأن القائل استصغر سن أبي جعفر(ع)، فقال أبو الحسن(ع): «إن الله تبارك وتعالى بعث عيسى بن مريم رسولاً نبياً صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر»([17]).
الرواية الثالثة: قال الإمام الرضا(ع)، لمعمر بن خلاد: “هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي: وصيّرته مكاني، إنّا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابـرنا القذة بالقذة”([18]).
أدّى صغر سن الإمام الجواد(ع) إلى كثرة المناظرات والحوارات معه، وقد كان لبعضها صدى كبيراً جداً، لما كان يدحض فيها من الشبهات التي كانت تثار في ذلك الوقت مع الكثير من المعتزلة، وقد كان الكثير من الناس بما فيهم بعض الشيعة يطرحون عليه أسئلة معقّدة وغامضة ظناً منهم أنه لا يتمكن من الإجابة عليها، ولكنه (ع) كان يجيب عن آخرها، بل ويضيف بعض الشقوق ويكثر في تعميق التساؤلات وتعقيدها بحيث لا يتسطيع أن يدرك إجابتها جميع المناظرين، ثم يجيبهم عن بكرتها بجواب يشفي الغليل، ويبرد قلب الحبيب.
مناظرة يحيى بن أكثم
لما قدم المأمون بغداد أشخص الجواد(ع) إليها، واقترح عليه الزواج بابنته أمّ الفضل، وكان غرضه من هذا الزواج التخفيف من وطئة الظروف السياسية الحرجة التي سببها انكشاف قتلة الإمام الرضا(ع) عند العلويين، فثار غضبهم وانزعجوا من ذلك كثيراً، فلاحظ المأمون أنّ هناك خطراً آخر قد يهدد حكمه، وهو وجود الإمام الجواد وإلتفاف الشيعة حوله فعمد إلى تزويج الجواد من ابنته ليتقرب بنفسه إلى أهل البيت(عليهم السلام)، ويخمد ثائرة الثائرين من العلويين([19])، وتنقل له ابنته عن قرب جميع ما يجري على الساحة الشيعية. وعلى كل حال فقد واجه المأمون معارضة شديدة في ذلك من العباسيين حتى قالوا له: إن هذا الفتى - وإن راقك منه هديه - فإنه صبي لا معرفة له ولا فقه.
فقال المأمون: ويحكم إني أعرف بهذا الفتى منكم، وإنّ أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى ومدده وإلهامه، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبيّن لكم به ما وصفت لكم من حاله.
فاختار بنو العباس يحيى بن أكثم من بين جميع العلماء لشهرته العلمية، وقد جاء يحيى ومعه وفود العلماء فقال له يحيى: ما تقول في محرم قتل صيداً؟
فقال الإمام الجواد(ع): “قتله في حلِّ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأً؟ حراً كان المحرم أو عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كبارها؟ مصرّاً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم في النهار؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً؟”.
فتحيّر يحيى بن أكثم من كلّ هذه الفروع التي فرّعها الإمام على هذه المسألة، وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج وتعتع في الكلام حتى عرف جميع أهل المجلس أمره.
فطلب المأمون من الجواد(ع) أن يجيب عن جميع هذه الشقوق، فأجاب عنها، فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثم نظر إلى أهل بيته، فقال: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرون([20]).وله (ع) الكثير من هذه النماظرات فمن رام الاطلاع فليراجع([21]).
رجوع الإمام إلى المدينة
ثم إنّ أبا جعفر(ع) بعد أن أقام في بغداد هاجر إلى المدينة وسكن فيها مدة، كان خلالها المأمون يترصد تصرفاته وتحركاته من ابنته أم الفضل، ولما توفي المأمون وبويع لأخيه المعتصم لم يزل المعتصم متفكراً في أبي جعفر يخاف من اجتماع الناس حوله، ووثوبه على الخلافة، ولأجل ذلك مارس نفس السياسة التي مارسها أخوه المأمون، فاستقدم الإمام الجواد إلى بغداد سنة (220هـ)، وبقي فيها حتى دس إليه السم فقتله وعمره 25 سنة([22]).
([1]) أصول الكافي 1: 492، والإرشاد: 316.
([3]) مفاتيح الجنان: أدعية شهر رجب.
([5]) أصول الكافي 1: 315، والمناقب لابن شهر آشوب 4: 379.
([6]) إثبات الوصية، للمسعودي: 209.
([8]) الإرشاد: 356، والفصول المهمة: 252، ولكنه خلاف المعروف من وصفه بالسمرة لا البياض.
([9]) قبسات من سيرة القادة الهداة 2: 166.
([10]) الإرشاد للمفيد 2: 274- 275.
([13]) سورة مريم: الآيات 30-32.
([16]) مرآة العقول، للمجلسي 4: 250.
([17]) أصول الكافي 1: 322 و 384، والإرشاد: 319، وروضة الواعظين: 261.
([18]) كشف الغمة 3: 141، وبحار الأنوار 50: 21، وأصول الكافي 1: 320.
([19]) سيرة الأئمةG، للبيشوائي: 496.
([20]) قصة معروفة ومشهورة راجعها في الإرشاد: 319-321، وإعلام الورى: 352، وإثبات الوصية: 216، والاختصاص: 99.
([21]) راجع فتاوى الإمام في القضاء وفشل فقهاء البلاط: تفسير العياشي 1: 320، والبرهان في تفسير القرآن 1: 471، ووسائل الشيعة 18: 490، (أبواب حد السرقة: ب4)، ,راجع أجوبته في فضح وضاع الأحاديث: الاحتجاج 2: 247-248، وبحار الأنوار 50: 80-83.