في ما يلي النص الكامل لنداء الحج في العام الهجري 1434:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين.
حلول موسم الحج يجب أن يُعتبر عيداً كبيراً للأمة الإسلامية. إن الفرصة المغتنمة التي تقدمها هذه الأيام الثمينة كلّ عام للمسلمين في العالم هي الكيمياء الإعجازية التي تستطيع أن تداوي الكثير من الأسقام ومواطن الضعف في العالم الإسلامي، وذلك إن قدّرناها حقّ قدرها واستثمرناها كما ينبغي.
الحج هو نبعٌ متدفّق بالفيض الإلهي. وأنتم أيها الحجاج السعداء قد نلتم هذا العطاء الرفيع فرداً فرداً، وبهذه الأعمال والمناسك المفعمة بالصفاء والمعنوية تطهّرون قلوبكم وأرواحكم حقّ التطهير، وتتزودون من نبع الرحمة والعزّة والقدرة بذخيرة لسنوات عمركم كلّها.
تستطيعون أن تتحلّوا بالخشوع والتسليم أمام الربّ الرحيم، وبالالتزام بالواجبات الملقاة على عاتق كل مسلم، و بالحيوية والحركة والإقدام في أمور الدنيا والدين، وبالرحمة والصفح في التعامل مع الإخوان، وبالجرأة والاعتماد على الذات في مواجهة الصعاب، وبعقد الآمال على عون الله ونصرته في كل أمر وفي كل مكان. وباختصار تستطيعون أن تكتسبوا جميع ما يحتاجه بناء الإنسان على الطراز الإسلامي في تلك الساحة الإلهية من التربية والتعليم. وأن تقدموا لبلدكم وشعبكم ومن ثمّ للأمة الإسلامية هذه الذات المتحلّية بهذه الفضائل والمستفيدة من هذه الذخائر.
الأمة الإسلامية اليوم وقبل كل شيء بحاجة إلى أُناس يتوفر لديهم الفكر والعمل إلى جانب الإيمان والصفاء والإخلاص، والمقاومة أمام الأعداء الحقودين إلى جانب البناء المعنوي والروحي. وهذا هو الطريق الوحيد لإنقاذ المجتمع الإسلامي الكبير من معاناته التي أصيب بها منذ عصورٍ بعيدة إما جهاراً بيد الأعداء، أو بسبب ما مُني به من ضعف العزم والإيمان والبصيرة.
عصرنا الراهن دون شك هو عصر يقظة المسلمين وبحثهم عن هويتهم. هذه الحقيقة نستطيع أن نفهمها بوضوح أيضاً من خلال التحديات التي تواجهها البلدان الإسلامية، وفي هذه الظروف بالذات يستطيع عزم الشعوب وإرادتها المستندة إلى الإيمان والتوكل والبصيرة والتدبير أن يسجل للمسلمين النصر والرفعة وأن يحقق لمصيرهم العزّة والكرامة.
الجبهة المقابلة التي لا تُطيق أن ترى للمسلمين يقظة وعزّة، جاءت إلى ساحة المواجهة بكل إمكانياتها، واستخدمت جميع الوسائل الأمنية والنفسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية كي تقمع المسلمين وتُخضعهم وتشغلهم بأنفسهم.
فنظرة إلى الوضع في بلدان غرب آسيا من باكستان وأفغانستان وحتى سوريا والعراق وفلسطين وبلدان الخليج الفارسي وهكذا بلدان شمال إفريقيا من ليبيا ومصر وتونس حتى السودان وبعض البلدان الأخرى، تكفي لبيان كثير من الحقائق. حروب داخلية، وتعصبات دينية وطائفية عمياء وحالات من عدم الاستقرار السياسي، وانتشار الإرهاب الوحشي، وظهور المجموعات والتيارات المتطرفة التي تشق صدور البشر، وتلوك (تمضغ) أفئدتهم على طريقة المجموعات البشرية المتوحشة في التاريخ، ومسلحون يقتلون الأطفال والنساء، ويذبحون الرجال ويعتدون على الأعراض، بل حتى إنهم يرتكبون بعض هذه الجرائم المخزية والمقززة باسم الدين رافعين رايات دينية، هذه جميعها حصيلة مخطط شيطاني واستكباري تنفذه أجهزة الاستخبارات الأجنبية ورجال الحكم المتعاونون معهم في المنطقة، عبر استثمار البيئات الملائمة داخل هذه البلدان، ويسعون من خلاله إلى جعل أيام الشعوب سوداء ومريرة.
من المؤكد أنه لا يمكن أن نتوقع في مثل هذه الأوضاع والظروف أن تملأ البلدان المسلمة فراغها المادي والمعنوي وأن تحقق الأمن والرفاه والتطور العلمي والاقتدار الدولي الذي يمكن أن يتحقق ببركة الصحوة والعودة إلى الهوية. هذه الأوضاع المأساوية بمقدورها أن تصيب الصحوة الإسلامية بالعقم، وأن تبدّد الطاقات المعنوية التي ظهرت في العالم الإسلامي، وأن تدفع الشعوب الإسلامية مرة أخرى لسنوات متمادية من الركود والعزلة والانحطاط، وأن تجعل قضاياهم الأساسية الهامة مثل تحرير فلسطين وإنقاذ الشعوب المسلمة من السيطرة الأمريكية والصهيونية في مطاوي النسيان.
العلاج الأساسي يمكن تلخيصه في جملتين أساسيتين كِلتاهما من أبرز دروس الحج:
الأولى: اتحاد المسلمين وتآخيهم تحت لواء التوحيد. والثانية :تشخيص العدو ومواجهة خططه وأساليبه.
تقوية روح الأخوة والتآلف هي من دروس الحج الكبرى. هنا يُمنع حتى الجدال وخشونة الكلام مع الآخرين. اللباس الموحّد، والأعمال الموحدة، والحركات الموحدة، والسلوك العاطفي هنا، يعني المساواة والإخاء بين كل المؤمنين المعتقدين والوالهةِ قلوبهم بمركز التوحيد. هذا ردّ إسلامي صريح لكل فكر وعقيدة ودعوة تُخرج جماعة من المسلمين والمؤمنين بالكعبة والتوحيد من دائرة الإسلام. لتَعلَم العناصر التكفيرية التي هي اليوم ألعوبة السياسة الصهيونية الغادرة وحماتها الغربيين، والتي ترتكب الجرائم المروّعة وتسفك دماء المسلمين والأبرياء، وليعلم بعض أدعياء التدين و المتلبسين بزيّ رجال الدين الذين ينفخون في نار الخلافات بين الشيعة والسنة وغيرها، ليعلموا أن مناسك الحج بذاتها تُبطل ما يدّعون.
ومن المفارقة، أن الذين يعتبرون مراسم البراءة من المشركين والتي لها جذور في عمل الرسول الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، جدالٌ ممنوع، هم أنفسهم من أكثر المؤثرين في إيجاد النزاعات الدموية بين المسلمين، وإنني أعلن مرة أخرى كالكثير من علماء المسلمين والذين يحملون هموم الأمة الإسلامية أن كل قول أو عمل يؤدي إلى إثارة نار الاختلاف بين المسلمين، وكل إساءة إلى مقدسات أي واحدة من المجموعات الإسلامية أو تكفير أحد المذاهب الإسلامية هو خدمة لمعسكر الكفر والشرك وخيانة للإسلام وحرام شرعاً.
معرفة العدوّ وأساليبه هي الركن الثاني. أولاً، ينبغي عدم إغفال ونسيان وجود العدو الحاقد. فمراسم رمي الجمرات المتكرر في الحج تعبير رمزي لهذا الحضور الذهني الدائم. ثانياً، ينبغي أن لا نخطئ في معرفة العدو الأصلي الذي يتجسد اليوم في جبهة الاستكبار العالمي والشبكة الصهيونية المجرمة ذاتها. وثالثاً، يجب أن نشخّص جيداً أساليب العدو العنود (شديد العناد)،المتمثلة في زرع التفرقة بين المسلمين، إشاعة الفساد السياسي والأخلاقي، تهديد النُخب وتطميعهم، ممارسة الضغط الاقتصادي على الشعوب وإثارة التشكيك في المعتقدات الإسلامية والعمل (من خلال معرفة هذه الأساليب) على كشف المرتبطين بهم عن علم أو من غير علم.
الدول الاستكبارية وفي مقدمتها أمريكا تعمد عن طريق شبكاتها الإعلامية الواسعة والمتطورة إلى إخفاء وجهها الحقيقي، تمارس أمام الرأي العام سلوكاً مخادعاً للشعوب عبر ادعاء الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية. هؤلاء في الوقت الذي يرفعون فيه عقيرتهم (صوتهم) بحقوق الإنسان، تلمس الشعوب الإسلامية بجسمها وروحها كل يوم أكثر من السابق نار فتنهم. فلنلقي نظرة إلى الشعب الفلسطيني المظلوم الذي يتلقى منذ عشرات السنين يومياً جراح جرائم الكيان الصهيوني وحماته، أو إلى دول أفغانستان وباكستان والعراق التي يمارس فيها الإرهاب الناتج عن سياسات الاستكبار وعملائه الإقليميين ما يجعل حياة شعوبها كالعلقم، أو إلى سوريا التي تعاقب بسبب دعمها للمقاومة ضد الصهيونية و تتعرض لسهام حقد قوى الهيمنة العالمية وعملائها الإقليميين، وتعاني من حرب داخلية دموية، أو إلى البحرين أو ميانمار حيث يعاني المسلمون كلٌ بطريقة، من الإهمال ومن إغداق الدعم على أعدائهم، أو إلى الشعوب الأخرى التي تهدد باستمرار من قبل أمريكا وحلفائها بهجوم عسكري أو محاصرة اقتصادية أو تخريب أمني. هذه النظرة الواحدة تكفي لكشف الوجه الحقيقي لزعماء نظام الهيمنة أمام الجميع.
يجب على النخب السياسية والثقافية والدينية في جميع أرجاء العالم الإسلامي أن يروا أنفسهم مسؤولين عن فضح هذه الحقائق. هذا هو واجب أخلاقي وديني علينا جميعاً.
بلدان شمال إفريقيا التي تتعرض اليوم للأسف لاختلافات داخلية عميقة، يجب أن تهتم أكثر من غيرها بهذه المسؤولية العظمى أعني معرفة العدو وأساليبه وحيله. ففي استمرار هذه الاختلافات بين التيارات الوطنية وإغفال تبعات الحرب الداخلية في هذه البلدان خطر كبير لا يمكن تعويض الأمة الإسلامية عن خسارته، في القريب العاجل.
نحن لا نشك أن الشعوب الناهضة في المنطقة والتي بلورت الصحوة الإسلامية، بإذن الله لن تسمح بأن ترجع عقارب الزمن إلى الوراء وأن يعود عصر الحكّام الفاسدين والمرتبطين (بالخارج) والدكتاتوريين، لكن الغفلة عن دور القوى الإستكبارية في إثارة الفتن وتدخلها الهدّام سوف يعقّد الأمور على هذه الشعوب، و يؤجل عصر العزة والأمن والرفاه لعدة سنوات.
نحن مؤمنون من أعماق قلوبنا بقوة الجماهير وبالقدرة التي أودعها الله الحكيم في عزم الشعوب وفي إيمانها وبصيرتها ونحن لمسنا ذلك بأعيننا خلال أكثر من ثلاثة عقود في الجمهورية الإسلامية في إيران وجربناه بكل وجودنا. مهمّتنا أن ندعو جميع الشعوب المسلمة إلى تجربة إخوانهم هذه في هذا البلد الفخور الذي لا يعرف الكلل.
أسأل الله سبحانه أن يصلح أمور المسلمين و يدفع كيد الأعداء عنهم وأسأله تعالى لكم، يا حجاج بيت الله الحرام حجاً مقبولاً و صحةً في الأجساد والأرواح وعطاءً معنوياً وافراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
السيد علي الخامنئي
19 مهر 1392 ه ش
5 ذي الحجة 1434 ه ق