الشيخ محمدرضا الأسدي
الجبر في اللغة هو الإكراه والإرغام والقهر. في علم الكلام: هو إجبار الله تعالى عباده على الفعل خيراً كان أو شراً حسناً كان أو قبيحاً دون أن يكون للعبد إرادة واختيار وقدرة على الرفض والامتناع. وبهذا المعنى اعتقدت الأشاعرة، وهم أتباع أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري وكان معتزلياً ترك الاعتزال على أثر مناظرة حدثت بينه وبين أستاذه محمد بن عبدالوهاب الجبائي في موضوع (الصلاح والأصلح) فتخاصما فإنحاز الأشعري إلى جماعة الصفاتية في الجبر وأيد مقالاتهم بمناهج من علم الكلام في الجبر وجواز رؤية الله وأصبح مذهبه من المذاهب المنتشرة في البلاد الإسلامية، ومن الأشاعرة جماعة عرفوا بأهل التنزيه لم يجوزوا رؤية الله تعالى واعتبروا الأفعال مكتسبة من العباد كما اعتقد بذلك الجهمية، وهم أتباع جهم بن صفوان الذي ظهر في ترمذ بمذهبه فقتله سالم بن أحوز المازني ويعتبر مذهبه في الجبر من المذاهب الخالصة المتطرفة في القول بالجبر كذلك المرجئة وهم فرق متعددة يقولون لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر حسنة.
وبعبارة أخرى قالت الأشاعرة والجهمية والمرجئة بأنّ الله تعالى هو الخالق لكلِّ شيء ومنه الخير والشر والهدى والضلال والكفر والإيمان وكلّ أفعال العبد مستندة إليه تعالى وليس للعبد قدرة وإرادة واختيار في فعل الشيء وتركه لأنّه مجبر ومكره على كلِّ ما يفعله من خير وشر فالقدرة والمقدور واقعان بقدرة الله وليس لقدرة العبد أثر في أفعاله، وإستدلوا على ذلك بأدلة أهمها:
1- إنّ الله تعالى لو أراد من الكافر الإيمان وأراد الكافر الكفر حصلت إرادة الكافر كان الله مغلوباً وكانت إرادة الكافر الكفر أقوى من إرادة الله تعالى له الإيمان، ولما كان الله لا يغلب على أمره كانت إرادة الكفر للكافر من الله.
2- إنّ كلَّ ما علم الله تعالى وقوعه فهو واقع لامحالة، وما علم امتناع وقوعه فهو يمتنع حتماً فإذا علم الله وقوع الكفر من الكافر استحالت على الكافر إرادة الإيمان.
3- قالوا إنّ في القرآن من الآيات ما يثبت إنّ الله تعالى هو خالق العباد وخالق أفعالهم وأنّ الحسنات والسيئات آتية من الله تعالى وكلها من عنده، ومن تلك الآيات قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات/ 96)، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) (النساء/ 78)، وهكذا تمسكوا بقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (إبراهيم/ 4)، وقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل/ 93)، وغيرها من الآيات التي وردت فيها كلمة الهدى والضلال.
ولكن الشيعة الاثنا عشرية قالوا بالاختيار وهو أنّ الله تعالى كلف عباده بما يريد ونهاهم عما لا يريد بعد أن أقام الحجة وأوضح لهم الدليل وهداهم إلى ما يريده منهم وما ناهم عنه، بعد أن منحهم القوة على فعل الشيء وتركه وإستدلوا على رأيهم هذا بقوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3)، (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد/ 10)، (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة/ 256)، (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف/ 29)، وقالوا لو كان الله تعالى يجبر بعض عباده على فعل الشر والكفر والقبيح ويجبر البعض الآخر على الهدى والإيمان والخير لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد ولتساوى المؤمن والكافر بالطاعة لأنّ كلَّ واحد منهما ينفذ إرادة الله تعالى ولا يخالف أمره وثبت أنّ الله تعالى يريد الشيء ويكرهه، يأمر بفعل وينهى عنه ويرغم الكافر على الكفر ويعاقبه عليه ويجبر المؤمن على الإيمان ليثبته عليه واستدلوا على بطلان الجبر وزعم المجبرة بأدلة منها:
1- لو كان الله تعالى يجبر بعض العباد على الإيمان والبر والهدى ويجبر الآخرين على الكفر والشر والضلال وكان البعض منهم مكرهاً على الطاعة والآخر مرغماً على العصيان لبطل التكليف وألغيت كلّ التعاليم والأوامر الصادرة منه تعالى إلى المكلفين لأنّ من شروط التكليف أن يقع الفعل من الفاعل بمحض إرادته واختياره أما إذا كان المكلف مرغماً والمأمور مجبراً على تنفيذ الأمر وكان المكلف (بكسر اللام) قد خلق العل بالفاعل وأوجده فيه دون أن يكون له اختيار وإرادة في خلق الفعل ولا قوة له ولا قدرة على مخالفته والامتناع من حدوثه لم يسم الفعل تكليفاً لأنّ المكلف به محقق الوجود وما كلف به العبد تحصيل حاصل ولا معنى بتكليف العبد بفعل حاصل بقدرة المكلف (بكسر اللام) وإرادته لأنّه حتمي الوقوع إن شاء العبد ذلك أو لم يشأ، أراده العبد أم لم يرده لأنّه مسلوب الإرادة والاختيار.
2- إذا كان المؤمن مجبراً على الإيمان والكافر مجبراً على الكفر بإرادة الله وقدرته ومشيئته كان الكافر والمؤمن متساويين في الطاعة لأنّ الكافر لم يختر الكفر بإرادته والمؤمن لم يرد الإيمان باختياره ووجب على الله تعالى أن يعامل المؤمن والكافر معاملة واحدة فيعاقبهما معاً أو يثيبهما معاً لأنهما لم يختارا الكفر والإيمان لنفسيهما وإنما تم الاختبار بإرادة الله ومشيئته لهما وعلى هذا الزعم يبطل الحساب والعقاب والجنة والنار والوعد والوعيد ويكون الظالم الشرير والخير العادل والمؤمن والكافر في حكم واحد ووجب أن يشطب من تعاليم الله تعالى كلمة الطاعة والمعصية والكفر والإيمان.
3- لو كان الكافر مجبراً والظالم مكرهاً على فعل الظلم لكان للكافر والظالم حجة على الله إذا أدخلهما النار وعاقبهما على فعلهما لأنّه هو الخالق فيهما الكفر والظلم وهذا يخالف ما جاء في القرآن الكريم: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام/ 149).
4- إذا كان الله تعالى هو خالق الشر والكفر والضلال في الإنسان ولا إرادة للإنسان ولا قدرة على مخالفته وإذا كان الله يجبر بعض العباد على الإيمان والبعض الآخر على الكفر كانت الشرائع والأديان والكتب المنزلة من عنده على أنبيائه ورسله (عبثاً) وكانت دعوة الأنبياء الناس إلى الإيمان بالله وفعل الخير والتجنب من الشر والفساد باطلة ولا أثر للشرائع والأديان في توجيه الإنسان ولا يترتب عليها شيء من أفعال الإنسان ولا تلتزم الناس أحكامها لأنهم جميعهم مسيرون بإرادة الله الذي خلق فيهم أفعالهم من خير وشر وكفر وإيمان ولا قدرة لهم على مخالفة ما أراده الله لهم وكانت دعوات الأنبياء للناس: آمنوا بالله، اقيموا العدل، اجتنبوا الفحشاء لا أثر لها في نفوس العباد لأنّ الذي خلق الله فيه الكفر لا يقدر على الإيمان ومن خلق فيه الإيمان لا يقدر على الكفر كما يقول الأشاعرة والمجبرة والجهمية وغيرهم.
5- لو صح ما ذهب إليه الأشاعرة وأمثالهم من المجبرة من أنّ الإنسان لا إرادة له ولا اختيار فيما يفعل من خير وشر وإنّ القدرة والمقدور واقعان بقدرة الله تعالى وليس للعبد قدرة وإرادة واختيار لكانت القوانين الشرعية والوضعية الخاصة بالعقاب والتأديب غير ملزمة للإنسان وإنما مهما وصفت بالعدل كانت ظالمة للإنسان الذي يرتكب الشر ويقترب الجرائم بفعل غيره فهو إذ يقتل يقتل لا بإرادته وهو إذ يسرق لا يسرق باختياره وإنما يفعل ذلك مجبوراً أو مكرهاً ومرغماً على فعل القتل والسرقة ولا سبيل له غير تنفيذ إرادة من قهره وأجبره فأخذ القاتل بالقتل وقطع يد السارق ومعاقبة أي مجرم في ذلك ظلم لا يتفق والعدل وترك القاتل يقتل والمفسد يفسد في الأرض لا يتفق والمحافظة على الكيان البشري ولا يقول به أي إنسان لأنّ في العقاب سلامة المجتمع وأمنه وفي القصاص من القاتل حياة الإنسان وبقائه كما في قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 179).
6- على زعم المجبرة وأتباعهم: لا يوجد في الدنيا من هو أظلم من الله، تعالى الله عمّا يقول الجاهلون وأي ظلم أفضع من ظلم الله تعالى للإنسان والعياذ بالله لأنّه على زعم المجبرة يجبر الإنسان على فعل الشر ويكرهه عليه ثمّ يعاقبه في الدنيا بحكم ما شرعه من الأحكام الموجبة للعقاب وفي الآخرة يأخذه ويدخله النار ويخلده في عذاب أليم جزاءاً لما ارتكبه من فعل الشر المرغم عليه إن فعلت من عقاب الدنيا.
7- أما ما استدل به المجبرة: من أنّ الله تعالى لو أراد من الكافر الإيمان وأراد الكافر الكفر دون إرادة الله كان الله مغلوباً على إرادته، فإنّ هذا الدليل يثبت الاختيار وينفي الجبر وذلك إنّ إرادة الله تعالى من الكافر الإيمان إرادة تكليفية متروكة إلى اختيار الكافر فلو كانت إرادة الله الإيمان من الكافر تكوينية لتحققت حتماً إرادة الله تعالى دون إرادة الكافر إلّا أن يكون المجبرة قد جعلت إرادة الكافر أقوى من إرادة الله وقدرة الكافر على تحقيق إرادته أعظم من قدرة الله، تعالى الله عمّا يقول الجاهلون وهذا ما لا يقول به أحد من المسلمين.
8- أما ما ذهب إليه المجبرة من أنّ الله تعالى كلما علم بوقوع شيء وقع لامحالة وإذا علم امتناع الشيء امتنع لامحالة هو الآخر دليل لا يجوز على العقلاء وذلك إنّ العلم بالموجودات من الوقوع واللاوقوع ولا علاقة للعلم في إحداث الشيء فالعلم شيء والحدوث شيء آخر، العلم هو معرفة ما يحدث للأشياء والإحاطة بموضوع الشيء وإدراك حقيقته فإذا كان العلم بحقيقة الشيء وما يصدر منه تاماً صدق الإخبار عنه وإن كان ناقصاً كان الإخبار عنه غير صحيح فلو كان العلم عاملاً من عوامل إيجاد الشيء وحدوثه كان المخبر عن الأنواء الجوية وتقلبات الهواء وحدوث الأمطار هو الفاعل المحدث لها وهكذا كلّ من علم بخسوف القمر وكسوف الشمس كان المحدث لذلك إذا صدق علمه.
إنّ علم الله تعالى بما كان وما يكون وما سطره في اللوح المحفوظ وأخبر به ملائكته ورسله لم يكن مؤثراً في أفعال عباده وليس هناك من يشك في أنّ مفهوم العلم هو غير مفهوم الخلق والإيجاد ولا يمكن أن يطلق العلم على الحدث والفعل حقيقة أو مجازاً صراحة أو كناية في مفهوم لغات العالم كلها ولا جدال في أنّ الله تعالى عالم بكلِّ شيء.
9- إنّ ما استدل به المجبرة ومن تبعهم في القول (بالجبر) من الآيات الكريمة المذكورة في الدليل الثالث من أدلتهم لا تدل على الجبر إذا فهم الناس معناها وفسرت على الوجه الصحيح المطابق للحقيقة والواقع. والتفسير الصحيح لما وقع فيه المجبرة من الشبهة في الجبر وقالوا بأنّ الله تعالى هو فاعل الخير والشر، هو في البيان التالي:
قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات/ 96)، ورد في سياق الآيات المدرجة في سورة الصافات من آية (82) إلى (96) في احتجاج النبيّ إبراهيم (ع) على قومه الذي كانوا ينحتون الأصنام ويعبدونها من دون الله تعالى وهي: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) (الصافات/ 83-97).
إنّ كلَّ مدرك يعي من سياق هذه الآيات إنّ إبراهيم (ع) بعد أن اختبر عبادة قومه راح يسخر من آلهتهم التي نحتوها بأيديهم ويقول لهم ألا تأكلون؟ ما لكم لا تنطقون؟ ثمّ عمد إليها وكسرها بيده اليمنى وحطمها في غياب قومه ولما أقبلوا إليه ووجدوه قد هشم أصنامهم قال لهم إبراهيم على وجه الاستنكار أتعبدون ما تنحتون بأيديكم؟ والله خلقكم وخلق المادة التي نحتم منها أصنامكم فأنتم وما تعبدون من هذه الأحجار التي صيرتموها أصناماً هي من خلق الله تعالى، مستنكراً على قومه إتخاذ المخلوقات خالقاً ومعبوداً، وليس في الآية ما يدل على إنّ الله تعالى هو الذي خلق الأحجار آلهة وأجبر قوم إبراهيم على عبادتها! بدليل قوله تعالى: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ) (الصافات/ 95)، أي إنكم تعبدون ما نحتتها أيديكم وصيرتموها آلهة من دون الله.
يضاف على ما تقدم إن إبراهيم (ع) كان في مقام محاججة قومه وإنّه كان يستنكر عليهم عبادة الأصنام من دون الله فإذا كان الله هو العامل لها وهو المجبر لهم على نحتها لما كانت له عليهم حجة فيما أجبر الله تعالى عباده عليه وما خلقه في نفوسهم وأراده لهم وحكلهم على نحته وعبادته.
المصادر:
1- القرآن الكريم
2- تفسير مجمع البيان/ للطبرسي
3- عقيدتنا/ للأنصاري
4- الملل والنحل/ للشهرستاني
5- الفصل/ لابن حزم الظاهري
المصدر: مجلة النور/ العدد 31 لسنة 1993م