يتحدّث الإمام الخامنئي دام ظله عن الاستغفار المؤثِّر وكيفيّته قائلاً: "المسألة الأخرى هي أنّ الاستغفار الّذي يُسهِّل الأمور هو الاستغفار الحقيقيّ والجدّيّ والمتضمّن للطلب الحقيقيّ. افترضوا أنّ أحدكم ابتُلي بمشكلةٍ كبيرة وأراد أنْ يسأل الله رفع ذلك البلاء عنه، كأنْ يواجه أحد أعزّائه مشكلة لا سمح الله، وسعى لحلِّ المشكلة بالطرق العاديّة فلم يُفلح، ثُمّ توسّل بربِّ العالمين ودعاه وتضرّع إليه، لنفترض أنّ إنساناً أُصيب أحد أعزائه بمرض، وتوجّه إلى بيت الله الحرام ليدعو، فكيف وبأيِّ حالٍ سيطلب من الله؟ اطلبوا من الله غفران ذنوبكم بنفس تلك الحال، اطلبوا المغفرة حقيقةً، وقرّروا أنْ لا تُعاودوا ارتكاب ذلك الذنب".
"قد يُقرِّر الإنسان أنْ لا يعود لذنب كان قد ارتكبه وتاب عنه، لكنّه يزلّ مجدّداً ويرتكبه، عليه حينها أنْ يُعاود التوبة منه أيضاً، فلو عاد الإنسان عن توبته مائة مرّة، فإنّ باب التوبة مفتوح أمامه للمرّة الواحدة بعد المائة أيضاً، لكنْ عندما تتوب وتستغفر يجب أنْ لا تنوي منذ البداية أنّني استغفر ثُمّ أعود لارتكاب نفس الخطأ والمخالفة، لا يصحّ ذلك.
في روايةٍ لأحد الأئمّة عليهم السلام قال: "من استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه"([1]). أنْ يفرح الإنسان بذنبه ويردّد بلسانه (أستغفر الله) فهو يسخر بذلك من نفسه، وأيّ استغفار هو ذاك؟! إنّه ليس استغفاراً، فالاستغفار يعني أنْ يعود الإنسان، وأنْ يطلب من الله تعالى بجدٍّ أن يعفو عن عمله السيّئ، فكيف يُقرِّر الإنسان أنْ يعود لمثل ذلك؟ هل يجرؤ في مثل هذه الحالة أنْ يطلب من الله العفو؟ السبّحة في الكفّ، والتوبة على الشفة، والقلب كلّه شوقٌ للمعصية.
تضحك المعصية ساخرة من مثل هذا الاستغفار.
أيُّ استغفار هذا؟ إنّه استغفارٌ غير كافٍ. ينبغي أنْ يكون الاستغفار جدّيّاً وحقيقيّاً. والاستغفار ليس مختصّاً بفئةٍ من الناس لنقول على الّذين أكثروا المعاصي أنْ يستغفروا، بل على جميع الناس حتّى في مستوى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليه أنْ يستغفر "لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر"([2]) فحتّى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليه أن يستغفر...
الاستغفار للجميع. لذا لاحظوا الأئمّة عليهم السلام أيّ تحرّق وتململٍ لهم في هذه الأدعية، وبعض الناس يظنّ أنّ الإمام السجّاد صلى الله عليه وآله وسلم تضرّع هكذا ليعلّم الآخرين ذلك، نعم هناك تعليم بالشكل والمضمون، لكنْ الأساس ليس كذلك، أساس المسألة هو حالة الطلب لدى هذا العبد الصالح والإنسان السامي والعظيم، وهذا التضرُّع لله كان منه لنفسه، وهذا الخوف من عذاب الله والميل للتقرّب إلى الله ورضوانه كان منه لنفسه، وهذا الاستغفار والطلب من الله كان حقيقة منه لنفسه.
قد يكون الاهتمام بالمباحات في حياتهم كالّلذّة المباحة والأعمال المباحة الأخرى تُصبح في نظر الإنسان الّذي سما إلى تلك الدرجة، تبدو سقوطاً وانحطاطاً، وهو يرغب أنْ لا يقع في إطار الضرورات المادّيّة والجسديّة، وأنْ لا يُعير هذه المباحات وقضايا الحياة العاديّة نظرة أو لمحة، وأنْ يغور أكثر في طريق المعرفة وفي الوادي اللامتناهي للسير نحو الرضوان الإلهيّ وجنّة المعرفة الإلهيّة، وعندما يرى أنّه حرم نفسه من بعض ذلك فإنّه يستغفر، لذا فإنّ الاستغفار للجميع.
ليستغفر الجميع، ليستغفر أهل العبادة، والمتوسّطون في العبادة، والذين يكتفون بأقلّ الواجبات، وحتّى أولئك الّذين يتركون أحياناً بعض العبادات الواجبة لا سمح الله، ليلتفت الجميع إلى أنّ علاقتهم هذه مع الله تيسّر أمورهم وتدفعهم إلى الأمام.
اسألوا الله تعالى العفو والمغفرة، اسألوا الله أنْ يُزيح عنكم الذنوب المانعة، أنْ يُزيل هذه السحب من أمام شمس فيض لطفه وتفضّله، حتّى يشعّ لطفه على هذه القلوب والأنفس. عندها سترون السمو والعزّة"([3]).
توجيهات أخلاقية، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
([1]) المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، طبعة دار الوفاء، الثانية المنقحة، ج75، ص 356.
([2]) سورة الفتح، الآية: 2.
([3]) من خطبة صلاة الجمعة. (18/1/1997م)