الجواب: نعم.
هو ليس معصوماً، وإن حاول أن يعصم نفسه من الزلل؛ لكنّه يرتكب الخطأ، ويقع فيه، إلّا أنّ الفارق بينه وبين مَن لا يتمتّع بشيءٍ منها، أنّه سريعُ التراجع عن خطأه فما أن يتذكَّر أنّه تحت نظر (الشاهد) و(الحاكم) معاً، حتى ينثني.. يقول تعالى في وقوع المُتّقين في الخطأ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ (الأعراف/ 201).. إنّ في داخل كلّ تقيّ (جهاز إنذار مبكر)!
وهذا يعني في ما يعنيه، أنّ التقوى استقامة فكرية وسلوكية وحياتية عامّة، تتخلَّلها حالات من الوهن والضعف والانتكاسات الآنية غير الملازمة وغير المزمنة أو المستديمة، هم سرعان ما يتنبَّهون لأخطائهم، ويراجعون أنفُسهم، ويلومونها ويحاسبونها، ويكثر بين أسئلتهم الناقدة سؤال: «أينَ الله؟»!
إنّ المتأمِّل في قول الإمام عليّ (ع): «أنّ المُتّقين ذهبوا بعاجل الدُّنيا وآجل الآخرة»، يرى أنّ لا تلازم بين الزُّهد وبين التقوى، وإن كانت التقوى في معنىً من معانيها، زهدٌ بالحرام، وإقلاعٌ عن الانكباب على الشهوات الممنوعة، ذلك أنّ قوله 7: «ذهبوا بعاجل الدُّنيا» يوافق منطق القرآن: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص/ 77).
وبالتالي، فليس من الضرورة أن أجتنب الدُّنيا لكي أكون تقيّاً، وإنّما الاجتناب يُطال المحرَّمات والشبهات، وما عدا ذلك فإنّ تناول الطيِّبات من الرِّزق، وأخذ الزينة بكلّ معانيها، والإثراء المشروع، هو من (التقوى) لأنّه طاعة لله تعالى في مباحاته.. ولمّا كانت مساحة الحرام ضيِّقة، ومساحة الحلال والمُباح واسعة بما لا قياس بين الاثنين، فإنّ تارك الحلال أو (مُحرِّمه) على نفسه ليس تقيّاً، لأنّه بذلك يُوسِّع دائرة (الحرمة) ودائرة (الكراهية) ذات الحدود المعلومة، ومن هنا ينشأ التكلُّف والتشديد والتحرُّج والتعسُّف والتطرُّف.
يومَ قَسَّم الإمام موسى الكاظم (ع) - في الرواية عنه - الأوقات إلى أربع ساعات، فإنّه كان قد وضع الساعة الرابعة للاستمتاع بالملذّات، قائلاً: «وساعة تخلون فيها للذَّاتِكم في غيرِ مُحرَّمٍ، وبهذهِ الساعةِ تقدرون على الثلاثِ ساعاتٍ» وقد أراد أن يلفت عنايتنا إلى أنّ هذه الساعة من الأهميّة بمكان بحيث يمكن الاصطلاح عليها بأنّها (ساعة الساعات) طالما أنّها تُمكِّننا من أداء أعمالنا العبادية والمعاشية والمجتمعية بيُسر وسهولة وانشراح صدر.. وفي قول آخر للإمام عليّ (ع): «إنّ هذه القلوبَ تملُّ كما تملُّ الأبدان، فابتغُوا لها طَرَائف الحِكم» ، والطريف: الجديد.
وكما يُطاعُ الله تعالى في (عزائمه) فرائضه وواجباته، وتكاليفه ومسؤولياته، يُطاعُ كذلك في (رُخَصه) وتخفيفاته في الأحكام، فليس من التقوى أن أُطالب بالتمام في صلاة السفر ولا بالصوم خلاله حتى مع قدرتي عليه وعدم استشعاري للمشقّة، وليس من التقوى أن أغتسل وأنا مُثخنٌ بالجروح، وليس من التقوى أن أُعاند الطبيب الذي يرى أنّ الصيام يضرُّ بصحّتي، فقط لأنّني لا أحبُّ أن يفوتني صيام الشهر، والله تعالى يُرخِّصني في آية الصيام بعدّةٍ من أيّامٍ أُخر إن كنتُ مريضاً أو على سفرٍ، وعلى ذلك فقس ما سواه.