من أجل تحصيل الخشوع في العبادات ولا سيّما في الصلاة لا بدّ للعابد من سلوك طريق العلم والإيمان، فإنْ كان الخشوع ناتجاً عن إدراك عظمة العظيم المطلق وهيمنة هذه العظمة على قلب الإنسان، فإنّ إدراك هذه العظمة لمن هم أمثالنا يتأتّى عن طريق العلم بها وإيصال هذا العلم إلى القلب لتحقيق الإيمان بها، والحقّ أنّ العلم بمفرده لا يوجد خشوعاً في القلب، وكلّ فردٍ يُدرك ذلك، فمع كوننا معتقدين بالمبدأ والمعاد، ومع اعتقادنا بعظمة الله وجلاله وجماله، فإنّنا لا نتذوّق طعم الخشوع في قلوبنا، وما ذلك إلا لأنّ ما اعتقد به العقل لم يصل إلى القلب، ولم ينطوِ على الإيمان به.
ومع أنّنا نُصلّي كلّ يومٍ خمس مرّات ومنذ سنين عديدةٍ من عمرنا، إلّا أنّنا لم نستشعر الخشوع في صلاتنا رغم أنّ الله تعالى يقول في كتابه المجيد مادحاً المؤمنين: ﴿قَد أَفلَحَ ٱلمُؤمِنُونَ * ٱلَّذِينَ هُم فِي صَلَاتِهِم خَٰشِعُونَ﴾[1]، فجعل الخشوع في الصلاة من حدود الإيمان وعلائمه. فمن لم يكن خاشعاً في الصلاة فهو خارج زمرة أهل الإيمان طبقاً لما قاله الله تعالى شأنه. قال إمامنا الصادق عليه السلام: "فإذا دخلتَ في صلاتك فعليك بالتخشّع والإقبال على صلاتك، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿ٱلَّذِينَ هُم فِي صَلَاتِهِم خَٰشِعُونَ﴾"[2]. من هنا نستنتج أنّه لتحصيل الخشوع في الصلاة ينبغي لنا أن نعمل على تحقيق الإيمان في ما نعتقد به عقلاً، وحتى نُحّصل الخشوع في الصلاة لا بدّ لنا من سلوك مسلكٍ معيّن يُصبح عادةً مرافقة لنا في حياتنا لأنّه "إذا قام العبد إلى الصلاة، فكان هواه وقلبه إلى الله تعالى انصرف كيوم ولدته أمّه"[3]، أمّا الأدب "والخشوع" المتأتّي نتيجة حدث أو خوف أو تأثّر دون أن يتمكّن من النفس ويُصبح ملكة... لا يدوم، ويرحل سريعاً. لذلك يُنصح المصلّي بعدّة أمور، منها:
أوّلاً: ذكر الله تعالى:
إنّ الاهتمام من عوامل الانتباه والتركيز، وكلّما يكون اهتمام الإنسان بأمرٍ أكثر يكون انتباهه له أكثر. وبالعكس فالقضية التي لا تأخذ من اهتمام الإنسان لا يَصرِفُ انتباهه إليها. ولمّا كانت الدنيا أكثر اهتمامات الناس فإنّها لا محالة تُشغلهم عن صلاتهم وتصرّفهم عنها، فإذا أقبل الإنسان على صلاته يبقى قلبه مشغولاً بما يهمّه من أمر دنياه، وهذه قضية واضحة، فإنّ الإنسان إذا واجه أمرين وكان اهتمامه إلى أحدهما أعظم من الآخر انصرف إليه بقلبه، وإن كان مشغولاً بالآخر.
وإنّما ينصرف الناس عن صلاتهم إلى ما يهمّهم من أمور دنياهم؛ لأنّ اهتمامهم بها أعظم من اهتمامهم بالصلاة. فإذا وعى الإنسان قيمة الصلاة، وما أودع اللّه تعالى في هذه الرحلة من مباهج ولذّاتٍ للعقل والرُّوح، ومن الثّواب في الآخرة، ووعى ﴿وَٱلأخِرَةُ خَير وَأَبقَىٰ﴾[4]. انقلب الأمر لا محالة، وانصرف إلى صلاته وذكره. ولم تؤثّر به موانع حضور القلب، وموانع حضور القلب في العبادات هي كلّ ما يستدعي غفلة القلب عن محضر العبادة ويُذهله عن معاني حركات وأذكار وطقوس العبادات ويسرح به بعيداً عن الحضور في موعد لقاء المعبود عزّ وجلّ.
إذاً؛ تحضير القلب يتمّ بتحويل الاهتمامات، وإذا تمكّن الإنسان أن يُحوّل اهتمامه من الدنيا ومتاعها إلى اللّه تعالى، وجعل اهتمامه للدنيا تبعاً لمرضاة اللّه تعالى وأمره ونهيه كانت صلاته إقبالاً على الله، وذكراً للّه وانصرافاً وانقطاعاً إلى الله تعالى. قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ اللّه سبحانه جعل الذّكر جلاء للقلوب"[5].
ثانياً: تفريغ القلب:
لا علاج لإحضار القلب إلا بالابتعاد عن الغفلة، وبصرف الهمّة إلى الصلاة قولاً وفعلاً، والهمّة لا تنصرف إليها ما لم يتبيّن أنّ الغرض المطلوب منوط بها (أهداف الصلاة)، وذلك هو الإيمان والتصديق بأنّ الآخرة خير وأبقى، وأنّ الصلاة وسيلة إليها، فإذا أُضيف هذا إلى حقيقة العلم بحقارة الدنيا ومهمّاتها حصل من مجموعها حضور القلب في الصلاة، وما دام القلب متعلّقاً، ومنغمساً في حبّ الدنيا فالطريق لإصلاح القلوب مسدودٌ، وباب جميع السعادات مغلقٌ في وجه الإنسان. والسبب في ذلك أنّ القلب يتوجّه إلى محبوبه بمقدار تمكّن حبّه منه، فإنْ كانت الدنيا هي محبوبته وقد استحوذت عليه فإنّها تأخذ بشِغافِهِ وعنايته في كافّة حالاته وهُنيهاته، وتُشغله بفتنتها، فسيبقى قلب الإنسان مشغولاً بشواغل الدنيا، وتبقى هذه الشّواغل تُلاحقه، وتُطارده، وهو يستسلم لها في صلاته، فالقلب معلّقٌ بها، وبالتّالي لا يستطيع أن ينصرف إلى ذكر اللّه تعالى، وهذا من سوء الأدب وتضييع حرمة الصلاة.
وروي عن الإمام أبي مُحمد الحسن عليه السلام: "إنَّ اللهَ عزّ وجلّ أقربُ إلَيَّ مِن أن يحظُرَ، فيما بَيني، وبينهُ أحد"[6].
ومن كلامٍ لإمامنا السجّاد زين العابدين في حادثة مفصّلة قال عليه السلام: "... ولولا أنّ لأهلي عليّ حقّاً ولسائر الناس من خاصّهم وعامّهم عليّ حقوقاً لا يسعني إلّا القيام بها حسب الوسع والطاقة حتّى أؤدّيها إليهم، لرميت بطرفي إلى السماء وبقلبي إلى الله ثمّ لم أردِّدها حتّى يقضي الله على نفسي وهو خير الحاكمين..."[7].
ثالثاً: الإعراض عن اللغو:
إنّ الاشتغال باللغو والتكلّم به من العوامل الاختياريّة للوقوع في الغفلة والنسيان. فاللغو يُضعف إرادة الإنسان في المحافظة على القيم الإنسانيّة والإسلاميّة، ويسلب منه توفيق الذكر وحضور القلب في الصلاة، في حين أنّ حضور القلب في الصلاة أساس القيم المذكورة.
إنّ الشخص الّذي يُوفَّق إلى حضور القلب الكامل في الصلاة لا يجتنب الذنب فحسب، بل يجتنب أعمال اللَّغو كلّها. ولعلّ تقارُن الإعراض عن اللَّغو مع الخشوع في الصلاة في سورة المؤمنون إشارة إلى هذه النقطة، قال الله تعالى: ﴿قَد أَفلَحَ ٱلمُؤمِنُونَ * ٱلَّذِينَ هُم فِي صَلَاتِهِم خَٰشِعُونَ * وَٱلَّذِينَ هُم عَنِ ٱللَّغوِ مُعرِضُونَ﴾[8]، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغوِ مَرُّواْ كِرَاما﴾[9].
[1] سورة المؤمنون، الآيتان 1 - 2.
[2] الشيخ الكليني، الكافي، ج 3، ص 300، باب الخشوع في الصلاة وكراهية العبث، ح3.
[3] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 81، ص 261.
[4] سورة الأعلى، الآية 17.
[5] الآمدي التميمي، غرر الحكم و درر الكلم، ص 235.
[6] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، التوحيد، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، إيران قم المشرفة، ط1، ص 184.
[7] ابن طاووس، السيد علي بن موسى، فتح الأبواب، تحقيق حامد الخفاف، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، لبنان بيروت، 1989م، ط1، ص171.
[8] سورة المؤمنون، الآيات 1 - 3.
[9] سورة الفرقان، الآية 72.