قال عليه السلام: "يا هشام، من كفّ نفسه عن أعراض الناس أقال الله عثرته يوم القيامة".
ويكون الكفّ عن أعراض الناس من خلال الابتعاد عن عدة أمور، منها:
1- النظر المحرّم:
والنظر إلى ما يحرم النظر إليه من المعاصي التي توعّد الله تعالى بها بالعذاب ففي الرواية عن رسول الله الأكرم صلى الله: "من ملأ عينه من حرام ملأ الله عينه يوم القيامة من النار، إلا أن يتوب ويرجع"([1]).
وفي رواية أخرى عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "اشتدّ غضب الله عزّ وجلّ على امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها أو غير ذي محرم منها"([2]).
فالنظر المنهي عنه هو للرجل والمرأة على السواء، وللنظر المحرّم مفاسد روحية فضلاً عمّا توعّد الله تعالى به من العذاب، فإن القلب يتأثر بما تراه العين، ففي الرواية أنّ المسيح عيسى بن مريم عليها السلام قال لأصحابه...: "إيّاكم والنظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه ولم يجعل بصره في عينه"([3]).
كما أنّ الانشغال بالنظر الحرام ينسي الإنسان الآخرة، فعن الإمام علي عليه السلام: "إذا أبصرت العين الشهوة عمي القلب عن العاقبة"([4]).
وأمّا ما يجب غضّ النظر عنه فهو كل أجنبي عن الإنسان، وقد جمعت الآية الكريمة التي نزلت على النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وحدّدت من يجب غض النظر عنهن من النساء ومن يجب على النساء أن يغضضن أنظارهن عنهم، قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِين يغُضُّوا مِنْ أبْصارِهِمْ ويحْفظُوا فُرُوجهُمْ ذلِك أزْكى لهُمْ إِنّ الله خبِيرٌ بِما يصْنعُون * وقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يغْضُضْن مِنْ أبْصارِهِنّ ويحْفظْن فُرُوجهُنّ ولا يُبْدِين زِينتهُنّ إِلّا ما ظهر مِنْها ولْيضْرِبْن بِخُمُرِهِنّ على جُيُوبِهِنّ ولا يُبْدِين زِينتهُنّ إِلّا لِبُعُولتِهِنّ أوْ آبائِهِنّ أوْ آباءِ بُعُولتِهِنّ أوْ أبْنائِهِنّ أوْ أبْناءِ بُعُولتِهِنّ أوْ إِخْوانِهِنّ أوْ بنِي إِخْوانِهِنّ أوْ بنِي أخواتِهِنّ أوْ نِسائِهِنّ أوْ ما ملكتْ أيْمانُهُنّ أوِ التّابِعِين غيْرِ أُولِي الْأِرْبةِ مِن الرِّجالِ أوِ الطِّفْلِ الّذِين لمْ يظْهرُوا على عوْراتِ النِّساءِ ولا يضْرِبْن بِأرْجُلِهِنّ لِيُعْلم ما يُخْفِين مِنْ زِينتِهِنّ وتُوبُوا إِلى الله جمِيعاً أيُّها الْمُؤْمِنُون لعلّكُمْ تُفْلِحُون﴾([5]).
ولغض البصر مع رغبة النفس في النظر أثر كبير في تهذيب النفس، بل إن الشعور بهذا الأثر سريع جد، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من مسلم ينظر امرأة أول رمقة ثم يغض بصره إلا أحدث الله تعالى له عبادةً يجدُ حلاوتها في قلبه"([6])، فغض النظر هو انتصار في معركة النفس الأمارة والشيطان، وهو تحطيم لأشد الحيل التي يجرنا إبليس من خلالها.
2- إشاعة الفاحشة:
إشاعة الفاحشة، هي مرضٌ متفشٍّ في الناس، والمراد منها أن يسعى البعض لنشر الأخبار التي تتعلق بأعراض الناس، وما يسيئهم. وقد حرّم الله تعالى هذا النوع من الأعمال المنافية للحشمة والأخلاق، وتوعد عليها بالنار والعذاب الأليم، إذ يقول تعالى: "إِنّ الّذِين يُحِبُّون أن تشِيع الْفاحِشةُ فِي الّذِين آمنُوا لهُمْ عذابٌ ألِيمٌ فِي الدُّنْيا والْآخِرةِ واللهُ يعْلمُ وأنتُمْ لا تعْلمُون"([7]).
ونشر هذه الأخبار هو من إشاعة الفاحشة حتى وإن كان الخبر صحيحاً، فعن عن الإمام الصادق عليه السلام: "من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ فيهم: "إِنّ الّذِين يُحِبُّون أن تشِيع الْفاحِشةُ فِي الّذِين آمنُوا لهُمْ عذابٌ ألِيمٌ"([8]).
وإنّما قال من الذين لأنّ الآية الكريمة تشمل موارد أخرى أيضاً كمن بهت رجلاً ومن ذكر عيبه في حضوره ومن أحبّ شيوعه وإن لم يذكره ومن سمعه ورضي به... والوعيد بالعذاب الأليم للجميع. قال الشهيد الثاني رحمه الله: إن الله أوحى إلى موسى بن عمران: "إن المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنّة وإذا لم يتُب فهو أوّل من يدخل النار"([9]).
وعلينا الحذر كل الحذر ممن يأتي بثوب الثقات، ويدعي الحسرة على الدين وأهله، وضياع المعروف وشيوع المنكر ويذكر بعد ذلك شيئاً مما يحرم إشاعته، فهؤلاء هم أخطر من يمكن الركون إليهم، ففي سماع كلامهم وزرٌ وفي تصديقهم أيضاً وزرٌ لعدم ثبوت كلامهم بالدليل الشرعي، وفي الرضا بما يفعلون وزرٌ آخر بقبول إشاعة الفحشاء، ففي الرواية عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام قال (أي الراوي): قلت له: "جعلت فداك الرجل من إخواني بلغني عنه الشيء الذي أكرهه فأسأله عنه فينكر ذلك وقد أخبرني عنه قوم ثقات فقال عليه السلام لي: يا محمّد كذّب سمعك وبصرك عن أخيك وإنْ شهِد عندك خمسون قسّامةً وقال لك قولاً فصدقه وكذبهم ولا تذيعنّ عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروءته فتكون من الذين قال الله عزّ وج لّفيهم: ﴿إِنّ الّذِين يُحِبُّون أن تشِيع الْفاحِشةُ فِي الّذِين آمنُوا لهُمْ عذابٌ ألِيمٌ فِي الدُّنْيا والْآخِرة﴾"([10]).
ولإشاعة الفاحشة فضلاً عن آثارها السيئة في المجتمع، آثار على الفرد نفسه، فمن تبع عورات الناس وسعى في نشر ما يسيء إليهم، لا بد أن يأتي يوم تشيع فيه له فاحشةٌ لم يكن يرغب في شيوعه، وهذا مضمون عديد من الأحاديث الشريفة، فعن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذموا المسلمين ولا تتبّعوا عوراتهم فإنّه من تتبّع عوراتهم تتبّع الله عورته ومن تتبع الله تعالى عورته يفضحه ولو في بيته"([11]).
3- القذف:
وهو أيضاً من أنواع التعرّض لأعراض الناس بل لعلّه من أشدِّ أنواع التعرض، وهو اتهام المسلم العاقل العفيف بفاحشة الزنا أو اللواط وكذلك المسلمة.
والقذف يوجب الحدّ على قائله لقول الله تعالى: ﴿والّذِين يرْمُون الْمُحْصناتِ ثُمّ لمْ يأْتُوا بِأرْبعةِ شُهداء فاجْلِدُوهُمْ ثمانِين جلْدةً ولا تقْبلُوا لهُمْ شهادةً أبدًا وأُوْلئِك هُمُ الْفاسِقُون﴾([12]).
والمراد من الإحصان ليس الزواج بل أن يكون المرء بالغاً مسلماً عاقلاً عفيفاً، يقول الإمام الخميني قدس سره: "يشترط في المقذوف الإحصان، وهو في المقام عبارة عن البلوغ والعقل والحريّة والإسلام والعفّة، فمن استكملها وجب الحدُّ بقذفه، ومن فقدها أو فقد بعضها فلا حدّ على قاذفه، وعليه التعزير"([13]).
وحدُّ القذف ثمانون جلدة كما صرّحت الآية الكريمة، يقول الإمام الخميني قدس سره: "الحدّ في القذف ثمانون جلدة ذكراً كان المفتري أو أنثى ويضرب ضرباً متوسطاً في الشدّة لا يبلغ به الضرب في الزنا، ويضرب فوق ثيابه المعتادة، ولا يجرّد، ويضرب جسده كله إلا الرأس والوجه والمذاكير، وعلى رأي يشهر القاذف حتى تجتنب شهادته"([14]).
لقد تشدّد الإسلام غاية الشدّة في رفضه التعرّض لأعراض الناس وكراماتهم، وتشدّد في وضع الشرائط لإثبات الفاحشة كالزنا... فـ "لو ذكروا الخصوصيات واختلف شهادتهم فيها كأن شهد أحدهم بأنّه زنى يوم الجمعة والآخر بأنّه يوم السبت أو شهد بعضهم أنّه زنى في مكان كذا والآخر في مكان غيره أو بفلانة والآخر بغيرها لم تسمع شهادتهم ولا يُحدّ ويُحدّ الشهود للقذف"([15]).
([1]) الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 4 ص 3291.
([2]) الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 4 ص 3291.
([3]) الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 4 ص 3288.
([4]) الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 4 ص 3288.
([5]) النور: 30 /31.
([6]) الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 4 ص 3292.
([7]) النور: 19.
([8]) الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 2 - ص 357.
([9]) المازندراني - مولى محمّد صالح - شرح أصول الكافي - دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان - ج 10 - ص 9.
([10]) ثواب الأعمال - الشيخ الصدوق - ص 247.
([11]) المازندراني - مولى محمّد صالح - شرح أصول الكافي - دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان - ج 10 - ص 4.
([12]) النور: 4.
([13]) الإمام الخميني - روح الله الموسوي - تحرير الوسيلة - دار الكتب العلمية - اسماعيليان - قم - ج 2 ص 474.
([14]) الإمام الخميني - روح الله الموسوي - تحرير الوسيلة - دار الكتب العلمية - اسماعيليان - قم - ج 2 ص 476.
([15]) الإمام الخميني - روح الله الموسوي - تحرير الوسيلة - دار الكتب العلمية - اسماعيليان - قم - ج 2 ص 461.