كما كان متوقعاً، كانت قضية تجريم التطبيع مع إسرائيل من بين النقاط المثيرة للخلاف في النقاش العام لفصول الدستور التونسي الذي انطلق يوم الجمعة الماضي. ففي فصل متعلق بانتماء تونس الى «الفضاء المتوسطي»، أصرّ نواب عن الجبهة الشعبية على تضمين الدستور إضافة تفيد اعتبار إسرائيل دولة عنصرية لا بد من تجريم كل من يتعامل معها أو يتعامل مع أي منظمة تدافع عنها أو تدعو الى التطبيع معها.
وتمسك نواب الجبهة الشعبية ونواب من حزب المسار الديموقراطي الاجتماعي (حصيلة اندماج الحزب الشيوعي سابقاً مع أحزاب من وسط اليسار ) وحزب التيار الديموقراطي وكذلك بعض المستقلين، بهذا المطلب. إلا أن نواباً من حركة «النهضة»، التي تقود الائتلاف الحاكم، وشريكها «حزب التكتل من أجل العمل والحريات»، لم يروا ضرورة في ذلك، على اعتبار أن الدستور يتضمن فصلاً آخر يؤكد التزام تونس بالدفاع عن القضية الفلسطينية وحق كل الشعوب في الحرية وتقرير المصير. إثارة الخلاف في قصر المجلس الوطني التأسيسي في ضاحية باردو رافقتها احتجاجات شعبية نظمها ناشطون نقابيون وقوميون ويساريون أول من أمس في شارع الحبيب بورقيبة، وأمام مقر المركزية النقابية لمطالبة المجلس التأسيسي بتضمين هذا الفصل.
في الحقيقة، هذا المطلب ليس جديداً، إذ إن المطالبة بتجريم التطبيع في الدستور التونسي بدأ منذ انطلاق أشغال المجلس في أواخر سنة ٢٠١٢، حيث نظمت المعارضة، بشقيها اليساري والقومي، مجموعة كبيرة من الفعاليات في معظم المدن التونسية للمطالبة بتجريم التطبيع. كذلك دعت الجمعية التونسية لمقاومة التطبيع ودعم المقاومة الى تنظيم وقفات احتجاجية وعريضة شعبية وقّع عليها آلاف التونسيين لإجبار المجلس على تضمين فصل يجرّم التطبيع ويضمن محاكمة الداعين اليه.
هذه الدعوات استهجنها رئيس المجلس مصطفى بن جعفر، وهو الرئيس الشرفي لمنظمة الاشتراكية الدولية والأمين العام لحزب التكتل الدستوري الديموقراطي، ورأى خلال حوار مع ناشطين أوروبيين في العاصمة النمساوية فيينا أن المطالبين بتجريم التطبيع مجموعة صغيرة من القوميين المتطرفين.
تصريح أثار موجة استياء وتنديد في تونس أجبرت مكتب بن جعفر على إصدار بيان يتبرّأ فيه ممّا تداولته وسائل الإعلام على لسانه وينفي وصفه للقوميين بالمتطرفين.
وفي الوقت الذي تصرّ فيه الأحزاب اليسارية والقومية على ضرورة تجريم التطبيع، لزمت أحزاب أخرى الصمت، منها حزب نداء تونس، أقوى أحزاب المعارضة وأكثرها انتشاراً.
في الوقت نفسه، رأى حقوقيون تونسيون أن الإصرار على تضمين الدستور فصلاً يجرّم التطبيع هو من باب المزايدة السياسية، لأن ذلك لا يرقى الى مرتبة الدستور، ويمكن إصدار قانون يجرّم التطبيع خارج الدستور.
مع ذلك، لن يمر رفض نواب «النهضة»، وخاصة المقرر العام للدستور الحبيب خضر، تضمين فصل اعتبار إسرائيل كياناً عنصرياً وتجريم من يتعامل معها في صمت، إذ تشن المواقع الاجتماعية حرباً مفتوحة على «النهضة» التي يعتبرون أن لها صفقات سرية مع المنظمات الصهيونية ضمنت لها الغطاء الدولي للوصول الى الحكم، كما يُشتبه في لقاءات عقدها زعيم الحركة راشد الغنوشي مع مسؤولين في منظمات صهيونية خلال زيارته للولايات المتحدة الأميركية العام الماضي. ورغم أن حركة النهضة تملك عملياً القدرة على عدم إمرار فصل يجرّم التطبيع إذا احتسبنا عدد الأصوات، فإن رفض كتلتها إمرار هذا الفصل ستكون له انعكاسات على قاعدتها الشعبية، إذ يفضح هذا الموقف طبيعة الارتباطات الدولية والالتزامات التي عقدها الحكام الجدد وراء الكواليس مع القوى التي تتحكم في مصير العالم والتي تسيطر على المؤسسات الدولية.