اتخذ الصراع في ليبيا ما بعد معمر القذافي، يوم أمس، بعداً خطيراً، ينذر بتقسيم البلاد إلى دويلات قبلية شرقاً وغرباً وجنوباً، بعدما أعلن زعماء قبائل وسياسيون ليبيون منطقة برقة «إقليماً فدرالياً اتحاديا»، واختاروا أحد أقارب الملك إدريس السنوسي رئيساً لمجلسه الأعلى، في وقت سارع رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل إلى اتهام دول عربية لم يسمّها بتذكية الفتنة في الشرق الليبي «حتى لا ينتقل إليها طوفان الثورة».
وقرّر مؤتمر شعبي عقد في مدينة بنغازي في شرقي ليبيا، بمشاركة قرابة ثلاثة آلاف شخص من أهل برقة، «تأسيس مجلس إقليم برقة الانتقالي برئاسة الشيخ احمد الزبير احمد الشريف السنوسي لإدارة شؤون الإقليم والدفاع عن حقوق سكانه في ظل مؤسسات السلطة الانتقالية الموقتة القائمة حالياً واعتبارها رمزاً لوحدة البلاد وممثلها الشرعي في المحافل الدولية».
يذكر أن أحمد الزبير السنوسي هو ابن عم الملك الليبي الراحل إدريس السنوسي، وعمته الملكة الراحلة فاطمة الشريف. وقد سجن في فترة حكم القذافي قرابة 31 عاماً، وتمّ اختياره عن السجناء السياسيين عضواً في المجلس الوطني الانتقالي الليبي بعد ثورة السابع عشر من فبراير شباط التي أطاحت بنظام العقيد الليبي. ووضع البرلمان الأوروبي، العام الماضي، السنوسي ضمن الفائزين بجائزة «ساخاروف» لحرية الفكر التي يمنحها سنوياً.
وأكد المؤتمرون، في بيان، أن «النظام الاتحادي الوطني (الفدرالي) هو خيار الإقليم كشكل للدولة الليبية الموحدة في ظل دولة مدنية دستورية شريعتها من القرآن والسنة الصحيحة».
وأشار البيان إلى «اعتماد دستور الاستقلال الصادر في العام 1951 كمنطلق مع إضافة بعض التعديلات وفق ما تقتضيه ظروف ليبيا الراهنة، والتأكيد على عدم شرعية إلغائه القهرية من سلطة
انقلابية، وعدم شرعية تعديله عام 1963 للمخالفات الدستورية الواضحة».
وأكد المؤتمرون في بيانهم «رفض الإعلان الدستوري وتوزيع مقاعد المؤتمر الوطني (الجمعية التأسيسية)، وقانون الانتخاب وكافة القوانين والقرارات، التي تتعارض مع صفة السلطة القائمة كسلطة انتقالية»، مشددين على «التمسك بقيم ومبادئ ثورة 17 فبراير من شفافية وحماية لكافة حقوق الإنسان والديموقراطية والعدالة والمساواة».
وأشار المؤتمرون إلى ضرورة «تفعيل القضاء وحمايته»، و«بناء الجيش والمؤسسات الأمنية ودعم الثوار وتنظيمهم لحماية الأمن والاستقرار في الإقليم وفي جميع ربوع ليبيا»، مشدّدين على أن «أزلام النظام المنهار وأتباعه وأعوانه... لن يكون لهم أي دور في هذا المشروع».
وكانت ليبيا بعد استقلالها في العام 1951 مملكة اتحادية تتألف من ثلاث ولايات هي طرابلس وبرقة وفزان، وكانت برقة أكبر تلك الولايات من حيث المساحة. وفي 1963 جرت تعديلات دستورية الغي بموجبها النظام الاتحادي، وحلت الولايات الثلاث، وأقيم بدلاً منها نظام مركزي يتألف من عشر محافظات.
وقال أبو بكر بعيرة، وهو أحد أبرز منظمي المؤتمر، إن «الفدرالية تعني وضع الضوابط على السلطة المركزية في علاقاتها مع الأقاليم المختلفة»، مضيفاً أن «ما نتج من هذا المؤتمر هو اختيار نوع حكم مناسب لظروف الشعب الليبي وخاصة في إقليم برقة»، داعياً إلى تغيير الثقافة السياسية «السلبية»، التي كانت سائدة خلال العقود الماضية.
ويرجع الإعلان الذي صدر عن قبائل برقة إلى الاستياء الذي يشيع بين سكان شرق ليبيا منذ فترة طويلة مما يعتبرونه إهمالاً من جانب حكام البلاد في طرابلس، التي تبعد أكثر من الف كيلومتر إلى الغرب. لكن الإعلان لا يتمتع بقوة قانونية، ولا يوضح ما إذا كان المجلس الجديد سيعمل في إطار مؤسسات المجلس الوطني الانتقالي أم سيكون منافساً له.
ورداً على سؤال لتوضيح تلك النقطة قال محمد بويصير، وهو أحد منظمي المؤتمر، إنه كان على اتصال مع المسؤولين في طرابلس، وطلب منهم أن يأتوا ويتفاوضوا، مضيفاً أن ذلك ينبغي أن يتم من خلال المفاوضات، لكنه أضاف إنهم لن يعطوا أحداً شيكاً على بياض.
وفي أول رد فعل على هذا الإعلان، اتهم رئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبد الجليل الثلاثاء دولاً عربية لم يسمّها بـ«إذكاء الفتنة» في شرقي البلاد. وقال عبد الجليل، في مؤتمر صحافي في طرابلس إن «بعض الدول العربية تذكي وتغذي الفتنة التي نشأت في الشرق حتى تهنأ في دولها ولا ينتقل اليها طوفان الثورة. هذا التخوف هو الذي جعل هذه الدول الشقيقة للأسف الشديد ترعى وتموّل وتذكّي هذه الفتنة التي نشأت في الشرق».
وأضاف إن «ما يحصل اليوم هو بداية مؤامرة ضد البلاد. هذه مسألة خطيرة تهدد الوحدة الوطنية»، محذراً من «عواقب خطيرة» قد تؤدي إلى تقسيم ليبيا، مشدداً على أن «ليبيا لها عاصمة واحدة هي طرابلس».
وكانت مدينة بنغازي ومدن ليبية أخرى شهدت تظاهرات مناهضة للعودة إلى نظام الحكم الفدرالي، كما أكدت على ضرورة إلغاء مركزية الإدارة في الدولة. ورفع المتظاهرون شعارات تؤكد على أن اللحمة الوطنية هي أساس بناء الدولة الليبية، وأن طرابلس هي العاصمة، مطالبين في الوقت ذاته المجلس الوطني الانتقالي والحــكومة الانتقــالية بعدم تهميش الشرق الليبي والاهتمام به وعدم اتباع نظام الحكم المركزي.
ومن شأن اتخاذ خطوات نحو منح برقة مزيداً من الحكم الذاتي أن يقلق شركات النفط العالمية العاملة في ليبيا، لأنه يثير احتمال اضطرار تلك الشركات لإعادة التفاوض بشأن عقودها مع كيان جديد.
وقال أحد العاملين في شركة الخليج العربي للنفط («اجوكو»)، كبرى شركات النفط الحكومية الليبية ومقرّها بنغازي، إن عمالها البالغ عددهم ثلاثة آلاف يتشاورون بشأن ما إذا كانوا سيؤيدون إعلان الحكم الذاتي، مشيراً إلى أن «بعضهم يؤيد وبعضهم يرفض، لكن ليس هناك موقف رسمي بعد».
(أ ف ب، رويترز، أب، السفير)