لم تشغل قضية ذلك الحيّز في وجدان الإمام الخميني قدس سره واهتماماته كالذي شغلته قضية القدس وفلسطين، وقلما يجد الباحث في كلمات الامام الخميني قدس سره السياسية والتعبوية قضية حاضرة وفاعلة كقضية القدس وفلسطين ففي البداية كان الهدف الاساس الذي استوطن عقل الامام قدس سره ورافقه في درب الجهاد هو اسقاط الشاه، هذا الهدف الذي سيطر وحكم على جميع الاولويات وكان متصدراً الخطابات والبيانات والمواقف الصادرة عن الامام الخميني قدس سره في رحلة جهاده الطويلة، سواء في مرحلة تواجده بين الجماهير في ايران او خلال مسيرة النفي المتعددة البلدان، لكن بعد ان تحقق الهدف الاساس وسقط الشاه وتدحرج تاج التسلط، وانكسرت هيبة الطاغوت ومعه ارادة امريكا التي كان لها في ايران موطئ قدم تمارس من خلاله عدوانيتها على الشعوب في منطقة الشرق الاوسط، بعد ذلك تصدرت الاولوية الثانية التي قرأناها في ثنايا الكلمات التي بثتها شفتا الامام العظيم قدس سره، وعنوانها اولوية تحرير القدس وفلسطين، ففي ذلك الزمن حيث الامام حطّم عرش الطاغوت واقتلع سارية العلم الامريكي ورماها ارضاً، واحرق الراية الزرقاء وعليها نجمة داوود، كانت اولى القبلتين للمسلمين ترزح تحت الاحتلال عينه الذي كان محتلاً لايران بالسياسة والثقافة والاقتصاد، لكنه في فلسطين احتلال عسكري وارهابي وتسلطي، فاعتبر الامام قدس سره ان اكمال الثورة عينها وتمامية حركيتها لا يتحققان الا بازالة "اسرائيل" من الوجود وليس فقط بطرد الصهاينة من طهران وارجاء ايران، فتوجه شطر المسجد الاقصى ورماه بوعده الجبار مؤكداً له انه سيتحرر ولو بعد حين، وقد اعطى الامام الخميني "قده هذه المسألة أي تحرير فلسطين، بكامل ترابها، كل الاهتمام الذي تستحق وكل الابعاد التي ترمز اليها كاسلامية وقومية ووطنية فضلاً عن كونها رمزاً لارهاب الصهاينة من جهة ولمظلومية الشعب الفلسطيني من جهة ثانية، كما اشار الامام في كلماته وبياناته الى خلفيات الصراع مع العدو الذي يربض في قلب الامة ويتمدد يميناً وشمالاً لينهش من لحمها ويقطع من جسدها، فقد بيّن الامام الخمينيقدس سره انه صراع عقائدي ديني وانه صراع قومي وانه صراع حضاري فكري هذا فضلاً عن جزئيات الابعاد والرؤى التفصيلية التي تلامس اطراف القضية او جوهرها والتي عمل الامام الخميني قدس سره ليبعدها عن المصالح السياسية والتكتيكية للدول والامصار، لانها ان دخلت في هذا المضيق فانها لن تصل الى عمق الصراع وستبقى تقارب الهوامش والحواشي، هذا فضلاً عن امكانية ضياع فلسطين حال الالتفات الى المصالح الذاتية المؤقتة للبلدان العربية والاسلامية التي تربطها مصالح مع امريكا حامية "اسرائيل" مما يفرض عليها نوعاً من المهادنة والمسالمة مع "اسرائيل" على حساب حقوق الامة وحقوق الشعب الفلسطيني وذلك تحت ذريعة حماية او تحقيق المصالح الوطنية، هذه المصالح التي عادة ما تخضع لتكتيكات تنتهجها الدول من اجل بلوغ الاهداف المسماة وطنية اعتبرها الامام الخميني قدس سره متنافية مع القضية الساطعة الحقانية وهي قضية فلسطين وها هو الامام الخميني قدس سره نفسه لم يلتفت الى مصالح ايران في هذه المسألة طالما انها مبدئية وجلية ولا يمكن اخضاعها او ادخالها في ترهات المصالح التكتيكية التي يمكن ان تخضع لها القضايا الجزئية الهادفة الى تحصيل المكاسب الفضلى بحسب طبيعة كل قضية، انما هنا فيما يتعلق بفلسطين لا مجال للمجاملة ولا لانصاف الحلول ولا للطروحات المجتزأة هنا: يجب ان يتم طرد الاحتلال وتحرير فلسطين وازالة "اسرائيل" من الوجود مهما كانت التضحيات ومن دون الالتفات الى العواقب، فعند الامام الخميني قدس سره نفس وجود "اسرائيل" في هذا المكان من العالم الاسلامي يعني الهوان لهذه الامة فاذا قامت ونهضت ولم تقدر على ان تفعل شيئاً وضحت بنفسها فلا ضير طالما انها محكومة بالفناء على كل حال، كيف وان الامور مختلفة تماماً فهناك الامكانية الكبيرة لتحقيق هدف التحرير، فلو قام جزء من الامة بمسؤولية وواجب الجهاد، فهناك وعد الهي محسوم بان الله ينصر من ينصره وان الله يدافع عن الذين امنوا وان الله يخزي الكافرين..
اذن اضحت فلسطين وقضية تحريرها الاولوية الاولى بعد سقوط الشاه لما لها من تأثير في واقع الامة وفي مستقبلها، وقد عمل الامام الخميني قدس سره على تجاوز كل العوائق النفسية الذاتية وتلك المصطنعة من قبل الاستكبار تهويلاً وتهديداً وافساداً والتي تحرف الشعوب عن قضايا امتهم الاساسية، وعاش الامام الخميني قدس سره حياته يرمق فلسطين، وفي قلبه حنين دائم الى تلك الربوع وشوق للوصول اليها بعد اقتلاع الاشواك وثني المسافات واجتياز السدود ليتمسح الامام بالعتبات المقدسة التي وطأتها اقدام الاف الاطهار من النبيين والوصيين..
لقد كانت ايران تخوض الحرب المفروضة عليها وتتحدى العالم المستكبر، وكانت الظروف صعبة وقاسية، لكن الامام كان يشاهد من اتون الحرب حرارة الاسى الذي يعتصر قلب فلسطين، وكان يقول ان البصرة هي طريق العبور الى فلسطين، لم يكن العراق هدفاً للحرب، بل كان تقريب المسافة الى فلسطين هو هدف الامام قدس سره .
كما ان الامام الخميني قدس سره وجه الشباب اللبناني المؤمن لقتال الجيش المحتل ولم تكن الاهداف التي حددها الامام ترتبط باخراج الاحتلال وطرده وانما كان تحرير فلسطين هو الامل الذي يراود عينيه ويكحلها، ومنذ ذلك الحين كان الشعار الذي طرحه الامام وما زال مدوياً بانه يجب ان تزول "اسرائيل" من الوجود، في ذلك الزمن حيث كان هذا الشعار ضرباً من الوهم او نوعاً من الكهانة او اغراقاً للامة في المصير المجهول او دفعاً للشباب الى الانتحار من خلال تحدي المستحيل، كان الامام يؤكده وكأنه هدف سهل المنال قريب المسافة بالرغم من الحالة التي كانت الامة تعيشها، الضعف والتشرذم والانقسام والتبعية والاستغراق في المصالح الذاتية ونسيان او تناسي القضايا المصيرية للامة،وبالرغم من انشغال ايران ومعها الامام قدس سره بالحرب المفروضة التي شنها الاستكبار لاسقاط ثورتها وضرب نهضتها الاسلامية، وكان الجزء الأكبر من لبنان محتلاً، وكانت الأنظمة تتهاوى الواحدة تلو الاخرى في مستنقع الخيانة والاستسلام، في هذه الاجواء الحالكة التي كاد ينعدم فيها بصيص النور اشعل الامام الخميني قدس سره ذلك السراج الذي بدا للوهلة الاولى غير قابل للحياة والديمومة بفعل الرياح العاصفة العاتية المانعة من وصول الزيت الى الفتيل، الا ان هذا السراج أُشعل بايد ربانية يمدها زيت من عالم الغيب مما جعله اقوى من كل رياح العالم وكل عواصف الدنيا واهلها، فاستمر السراج وتلاشت الرياح بالتدرج، بل ان وهج السراج تعالى وتصاعد واضحى اكثر قدرة على الاضاءة في المدى الاوسع في حياة الامة فكان تحرير لبنان الذي تحقق بفعل التكليف الذي حدده واطلقه الامام الخميني قبل عدة عقود من الزمن، وكانت الانتفاضة على وقع انتصار التكليف الشرعي الذي يحمل اسم الامام الخميني فباتت الصلة وثيقة بين ما يجري في فلسطين وبين الفكر والرؤى التي بثها الامام قدس سره في هذه الامة، وسوف تنمو وتتضخم بركات ذلك النهج والفكر والخط الذي صاغه الامام الخميني لينبت في ربوع فلسطين مجداً وسؤدداً وعزاً وحرية وسوف تشهد الاجيال اللاحقة وتعاين مدى العظمة لذلك الامام الذي رحل عن الدنيا بعد ان صبغ هذا القرن من الزمن بألوان زاهية تحكي الاسلام المحمدي الاصيل الذي اعاده الامام الخميني قدس سره ليحتل المكان المرموق في عالم الدنيا وليغدو من جديد حاضراً وبقوة في حياة الانسان من اجل احياء هذا الانسان مقدمة لظهوره النهائي والتام بعد ان يبقى هذا الاسلام المحمدي الاصيل هو الخيار الوحيد والاوحد الذي يلبي متطلبات الانسان وعشقه وسيره نحو السعادة اللامتناهية فتُيَمم الوجوه نحوه من كل الاصقاع تلبية لنداء الفطرة السليمة التي شهدت على الحق وامنت به ويظهر الاسلام دين الفطرة والعقل على الدين كله ولو كره المشركون ولو كره الكافرون...
مركز الإمام الخميني الثقافي