بعد أقل مما كان متوقعاً من الوقت لتحرير الجرود، يعلن الإعلام الحربي أن المعركة تشارف على نهايتها باندحار "جبهة النصرة". لكن "النصرة" التي تتهاوى في المواجهة أمام المقاومة والجيش السوري، تتمدّد في إدلب وعلى الحدود التركية من دون مواجهة. فلماذا هذه المفارقة؟
قد يكون من بين الظروف المؤاتية التي دفعت قوات المقاومة والجيش السوري لاتخاذ قرار تحرير الجرود، هو الانقسام في الأزمة الخليجية بين الطرفين الداعمين للجماعات المسلّحة ولا سيما "النصرة" و"داعش". وربما لا يقتصر هذا الأمر على تخفيف الدعم بالسلاح وبالمال وكذلك الدعم السياسي والدبلوماسي "للثورة السورية"، والتحريض الإعلامي ضد المقاومة والقوى التي تحارب الإرهاب.
الاتهامات المتبادلة في دعم الارهاب بين الطرفين، قد تكون القشة التي قصمت ظهر البعير بشأن انهيار سردية "الثورة السورية" التي نسجتها دول تحالف واشنطن، وبشأن سردية التحريض على المقاومة والمحور الذي يواجه الارهاب. فالحملة الإعلامية الواسعة بين طرفي الأزمة أدّت إلى تشكيك واسع في مجمل بصدقية كل ما بنى عليه الطرفان حربهما في سوريا على وجه الخصوص.
فهذه الحملة التي اشتركت بها معظم كبريات وسائل الإعلام الغربية المرموقة وبعض مراكز الأبحاث والدراسات، تركت انطباعاً عاماً في المزاج الشعبي العربي، بعدم صدقية روايات دول تحالف واشنطن، كما عبّر عنها بوضوح روبرت فورد الذي كان له الباع الطويل في إثارة الغرائز والضغائن والعصبيات الطائفية.
لعل التعاطف اللبناني بوجه عام مع المقاومة في معركة تحرير الجرود، يتضمّن شيئاً من خصوصية يجتمع عليها أكثرية اللبنانيين في مواجهة الارهاب الذي يتضرر منه معظمهم. لكن هذا التعاطف الملموس قد يكون مؤشراً على بداية تحوّل ظاهر في المناخ السياسي الشعبي البناني والعربي أيضاً. فالمقاومة تتجشّم الصعاب والتضحيات في اقتحام "وادي الخيل" حيث معقل "النصرة"، وتثبت قدراتها الرفيعة في حسم معركة على أرض جردية حصينة. لكنها تثبت في خطة المعركة أنها تغلّب الإنساني والأخلاقي على الرصاص.
حاولت المقاومة قبل اندلاع البارود حقن الدماء بالمفاوضات. وهي في الساعات الأخيرة لا تزال تضع أمام فلول النصرة فرصة توفير المزيد من هدر الدم. وبموازة المعركة تحرص المقاومة على حياة وأرواح أهالي عرسال ومحيطها بالتنسيق مع الجيش اللبناني، وعلى حياة وأرواح النازحين السوريين بالتنسيق مع المؤسسات المعنية بأمر الإغاثة. ولا ريب أن القوى التي اعتادت التحريض الطائفي عبر التحذير من "مجازر طائفية" كما دأبت عليه في معارك الفلوجة والموصل، ستخرج في تحريضها خالية الوفاض أمام رأي عام عربي ينقلب مزاجه العام إلى ضفة مقابلة تحظى بالشفافية والصدقية.
قد لا يكون التزامن بين اندحار "النصرة" في القلمون وبين تمددها في إدلب وعلى الحدود التركية، مصادفة. فعندما لاحت معركة تحرير الجرود، كانت تركيا تتعهّد بدعم الجماعات المرتبطة بها من حركة "أحرار الشام" وغيرها لمواجهة "النصرة" في مدينة إدلب وهي مركز المحافظة التي تحتلها الجماعات المسلّحة.
فتركيا التي تزال تماطل في التفاهم مع موسكو على مواجهة النصرة منذ معركة حلب، جمعت فصاءلها من مدينة جرابلس وزجّت بها حول إدلب بدعوى تنفيذ التفاهم الروسي ــ التركي. لكن أنقرة سرعان ما تراجعت عن المواجهة على وقع اندلاع معركة تحرير الجرود.
"النصرة" أخرجت حركة "أحرار الشام" من معبر باب الهوى على الحدود التركية أمام مرأى ومسمع الجيش التركي. ومن دون قتال انسحبت "أحرار الشام" من إدلب لمصلحة "النصرة"، بل تمدّدت الأخيرة على الحدود التركية إلى معبر خربة الجوز وإلى بلدتي خربة الجوز والزعينية. وهي بذلك يمكن أن تتمدد النصرة على كامل الحدود مع تركيا بين خربة الجوز ودركوش، بحسب بعض التوقعات.
فــ "النصرة" قد تكون أمضى من "أحرار الشام" في الأولويات التركية ضد سوريا. واندحارها في الجرود قد يضعف المراهنة التركية على "النصرة" إذا لم تتغذَّ بالتمدد تحت أنف أنقرة. لكن بين مواجهة الارهاب لدحره وبين تغذيته بالتمدّد، قد تتكشّف صفحة أخرى من صفحات سردية عدم الصدقية في حبلها القصير.