هل تحتاج الجزائر إلى إصلاحات جذرية تماشياً ومتطلبات المرحلة التعدّدية السياسية التي تعيشها؟ أم أنها في غنى عن مواكبة الحاصل اليوم بسلبياته في الوطن العربي؟ بالتأكيد هي تحتاج إلى تغيير جذري في التسيير على المستوى القاعدي وفي بعض المسؤولين عنه، هي أيضاً في حاجة إلى انفتاح سياسي أكبر يؤمّ الجميع ويصافح بشدوه الجميع أيضاً، ولكن ليس بمنطق الغرب أو بإيديولوجية "الفوضى الخلاّقة" التي جاءتنا بها المشؤومة "كوندوليزا رايس" ورئيسها "الكاربان بوش" الإبن.
بالتأكيد أيضاً أن فاعلية الهدوء الذي تعيشه أمر مهم، حتى لا تضيع سنوات الجهد في بناء التعدّدية السياسية هباء تذروه الرياح أو كعصف مأكول، وحتى لا يختزل الزمن في الأخذ بالجاهز فيصير نقيضاً للإصلاح، فإن بعض المُسيّرين ليسوا إلا في مراتب الحراس -وأنا ملتزم بهذا التوصيف - إن بتصرّفاتهم، أو بأفعالهم المتناقضة وثقافة الدولة، وهؤلاء عليهم قراءة الواقع بهدوء، فالحياة بالأساس ليست مساحة للعب على أحجار الشطرنج إلى الأبد، إنها ليست إلا مرحلة عابرة من حياتنا.
ثم إن منطق التسرّع في أية عملية تغييرية قد يؤدّي إلى تراكم آخر وبشكل مُضرّ من الأخطاء ومن المفاسد. إن سياسة الانبعاث الشامل هي أيضاً سياسة تحتاج إلى توضيح وإلى مشاركة مكثّفة لآراء أصحاب الاختصاص، وهذا هو مبدأ الرشاد في التسيير حتى على المستوى البسيط "الأسرة"، إن الذين يدعون -من خارج الوطن- بأن أدواتهم الإعلامية هي التي تحرّك بعض الأمواج البشرية في الجزائر باتجاه الصراع اللغوي، مخطئون بلا مبدأ، لأن الفوضى التي يصنعها الهيجان العاطفي قابلة للذوبان في أية لخطة.
فضلاً عن أنها تفتح المجال للأجهزة الأمنية الأجنبية –كما حدث في مصر وليبيا وسوريا- كي تحرّكها أو تغوص من خلالها في أعماق إسرار الدولة مثل الذي حدث مؤخراً مع المتمرّدين في ليبيا، والذين أخذوا بأنفسهم قناة العربية وهي تابعة لأجهزة المخابرات السعودية والأميركية إلى أماكن تواجد بعض مخازن السلاح للجيش الليبي ليتم تصويرها، وقد سمعنا لاحقاً عن أن تلك المخازن تعرّضت للتدمير والسرقة.
هذه المخاطر وغيرها التي تثيرها بعض القنوات التلفزيونية، ترفض الجزائر بالتأكيد منطق الانصراف هذا باتجاه التدمير الذاتي لمقوّماتها ومقوّمات الأمّة العربية، المادية والمعنوية، إن بواسطة الأعداء في الداخل أو ممن هم في الخارج والذين يتربّصون بها الدوائر. ترفض، لأنها تعلم يقيناً إن هذه القنوات يلفّها الغباء السياسي هي ومَن وراءها من غرف العمليات وإلا لما أشاد بها "الرئيس أوباما و"هيلاري كلينتون" إشادة مُبطّنة وقد سخراهما لاحقاً لما عُرِف زوراً بـ"الربيع العربي" فعلاً إلى تدمير الواقع العربي تدميراً لا يمكن بعده أن نقول إنها تخدم الإعلام بمهنية وإنها لا تأخذ من أفواه أعدائها وقد حطّمت بفبركاتها غالبية البلدان العربية.
قلنا سابقاً إن السياسة التي يحكمها التاريخ وتستند إليه لا يمكن تحويلها عن خطها الأساس، ولا يمكن احتواؤها بمجرد تلفيق اتهامات لا تستند إلى رصيد الواقع، ولا إلى حقيقة المنطق، قلنا إن الجزائر تمتلك من التاريخ الجهادي وفي أيام المحن الكبرى ما لا يمتلكه شعب آخر، وهناك من المؤرّخين الصادقين من قال بالتأكيد أن ثورة الجزائر غيّرت وجه التاريخ، قول لم يكن إلا تعبيراً عن حقيقة هي أشبه بالمسلّمات، هذا الإرث بكل تشعّبانه وأطيافه هو الذي جعل السياسة الجزائرية في إناء الحكمة أو ما يشبهها.
فالجزائر بالعلاقات التي تربطها بليبيا، وبالموقف التاريخي الذي وقفته ليبيا مع الجزائر أيام تأميم المحروقات تعترف بفضل الرجال وبفضل الشعوب، ولذلك لم تتدخّل منذ البداية، لا في مصر ولا في ليبيا ولا في تونس وقد رفضت وبكبرياء سياسي أي تدخل أجنبي في ليبيا، وأعدّت العدّة لذلك خلافاً لمجلس التحالف الخليجي الذي طلب من الغرب فرض حظر جوّي عليها قصد تدميرها كما دمّروا العراق من قبل، إنهم أهل النسيان وأهل المفبركات الإعلامية وللمشاهد أن يعي سموم هذه القنوات.
لقد تعلّم الشعب الجزائري الصدق من الثورة ورجالها ومن المحن وأوزارها، وبالتالي لا يحتاج إلى من يكذب عليه لا من دولة "المخزن" ولا من حكّام أرض التائهين بأموال الشعوب، والشعوب ضائعة في الفقر، لا يحتاج إلى مَن يحاول إعلامياً أن ينظّر زوراً و بهتاناً بأن في الجزائر مجموعات تطالب بالفوضى الخلاّقة، نعم للجزائر مشاكل مثل كل دول الأرض لكنها مشاكل تزول تدريجاً والحكمة في التدرّج، وإذا كانت فرنسا تخيط لنا دسائسها عبر مشكل الصحراء الغربية فالدبلوماسية الجزائرية ليست بلهاء إلى درجة أن تنتظر نصائح مَن كانوا بالأمس أشدّ الأعداء، لقد انتهى عصر الوصاية السياسية على الجزائر بعد أن سدّدت ديونها لصندوق الاستعمار الدولي قبل الأوان، لأنها تدرك أن خيوط الاستعمار تمتد عبر هذا الصندوق وأن لفرنسا فيه أصابع كثيرة.
نعم، الجزائر ترفض منطق التدخّل الأجنبي في أية دولة حتى ولو كانت فرنسا ذاتها لأنها بالتاريخ صنعت وجهها الحضاري، وبالدماء بنت أرضها ومسلّماتها، وبالتماسُك الأخلاقي والإنساني حصّنت أنفس أبنائها فلا "ماكرون" ينصحنا ولا الملوك لهم فينا ما أصابهم بل أصابهم ما أصاب سياستهم. إن الذين يؤمنون بقوّة الفعل، يؤمنون بأن قوّة الذات في احترام هذا الفعل، والراجلون على رصيف المعرفة مثل الراجلين على رصيف الروح، كلاهما يصنع من مخلّفات الأحداث والتاريخ نوافذ للنور، وأبواباً للحياة.
محمّد لواتي رئيس تحرير يومية المُستقبل المغاربي