يعتبر الانقسام الفلسطيني لدى الكثيرين، أنه العامل الرئيس في عدم توفير البيئة الحاضنة لتطوير مسيرات العودة وكَسْر الحصار إلى انتفاضة شعبية، ورغم وجاهة هذا الرأي، إلا أن المشهد السياسي الفلسطيني أثناء اندلاع انتفاضة الأقصى، هو الآخر كان منقسماً ولو بدرجات مختلفة.
تجرّأ "أرئيل شارون" في الثامن عشر من أيلول عام 2000 على اقتحام المسجد الأقصى المبارك، في الوقت الذي كان فيه الأفق السياسي لعملية التسوية قد أُغلق بعد جولات كامب دايفيد، بسبب التعنّت الإسرائيلي، فأدرك ياسر عرفات أن رئيس وزراء الكيان آنذاك "أيهود باراك" لن يُقدِّمْ له، ولو الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، خاصة في مدينة القدس، التي يعتبرها "أبو عمار" رمز الثوابت الفلسطينية، فالسماح لعرَّاب الاستيطان الصهيوني في أراضي عام 1967 "شارون" باقتحام المسجد الأقصى، كان رسالة واضحة للفلسطينيين، أن هناك قراراً إسرائيلياً مُجمعْ عليه ما بين الكل الصهيوني على تهويد مدينة القدس والمسجد الأقصى، فكان الرد الفلسطيني، وبتلقائية تامة انتفاضة الأقصى.
في الرابع عشر من أيار لعام 2018، بعد ما يُقارب ثمانية عشر عاماً من انتفاضة الأقصى، تم نقل السفارة الأميركية إلى القدس، باحتفال حاول منظّموه أن يكون تاريخياً، يُجسِّد النصر الصهيوني أمام الهوان العربي والفلسطيني، ويحسم يهودية القدس، ورغم أن هذه الخطوة الصهيو _ أميركية واكبها فلسطينياً اندلاع مسيرات العودة وكَسْر الحصار، كحال فلسطينية مقاوِمَّة شعبية جماهيرية في غزّة، إلا أنها انحصرت جغرافياً على القطاع، ولم يُسمحْ لها أن تتحوّل لانتفاضةٍ جماهيريةِ عسكرية على غرار انتفاضة الأقصى، أو حتى جماهيرية شعبية كانتفاضة الحجارة عام 1987، ما يفتح باب المقارنة على مصرعيه حول الفروقات ما بين المشهدين.
يعتبر الانقسام الفلسطيني لدى الكثيرين، أنه العامل الرئيس في عدم توفير البيئة الحاضنة لتطوير مسيرات العودة وكَسْر الحصار إلى انتفاضة شعبية، ورغم وجاهة هذا الرأي، إلا أن المشهد السياسي الفلسطيني أثناء اندلاع انتفاضة الأقصى، هو الآخر كان منقسماً ولو بدرجات مختلفة، حيث كانت حركات مركزية كحماس والجهاد الإسلامي معارضين، وبقوة لخط التسوية، وكان الكثيرون من عناصر تلك الحركتين داخل سجون السلطة وقت اندلاع انتفاضة الأقصى، ولكن عندما قرّر الرئيس ياسر عرفات خوض معركة سياسية مع الاحتلال، من خلال العودة إلى خيار المقاومة بكافة أشكالها بما فيها الكفاح المسلّح، حضرت الوحدة الوطنية بقوّة على أجندته السياسية الداخلية، فاندمج مع معارضيه السياسيين من خلال وحدة ميدانية في ساحات المواجهة، ومن خلال خطاب سياسي وطني في المحافل الدولية، يحفظ شرعية الحق الفلسطيني بمقاومة الاحتلال، ولم يعتبر المقاومة الفلسطينية إرهاباً، ولم يعتبرها ميليشيات خارج إطار الشرعية الفلسطينية.
يعتبر البعض أن عرفات استخدم الكفاح المسلّح كورقة سياسية تهدف إلى تحسين شروطه التفاوضية، وإثارة المجتمع الدولي للضغط على دولة الاحتلال، لتنفّذ ما تم الاتفاق عليه في أوسلو، لكن بملخّص القراءة الشاملة لفعل "أبو عمار" السياسي ، الكفاح المسلّح لم يغب عن خياراته السياسية، لا في التكتيك، ولا حتى في الأيديولوجيا، بعكس الحال الآن، الكفاح المسلّح كخيار قتله التنسيق الأمني المجاني من قِبَل السلطة الفلسطينية، رغم أن الاسرائيلي فعلياً قتل حل الدولتين، ويعلن جهاراً نهاراً أنه لن يسمح بقيام دولة فلسطينية ما بين النهر والبحر، إضافة إلى أن الوضع الراهن لمدينة القدس أكثر خطورة مما كان عليه عام 2000، في تلك الفترة كانت محاولات إسرائيلية لفرض أمر واقع جديد في القدس والمسجد الأقصى، يقضي على الحلم الفلسطيني بإقامة عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلّة في القدس، لكن اليوم هناك قرار يتم تنفيذه يومياً على كافة المستويات لشطب قضية القدس، والعمل على إخراجها من المربع العربي الفلسطيني الإسلامي المسيحي، إلى مربّع التهويد الصهيوني الكامل، وقتل الرواية التاريخية الفلسطينية العربية لمدينة القدس، رغم ذلك مازالت الطبقة المستفيدة من التنسيق الأمني تُصِرّ على التمسّك به، وتختطف القرار الأمني والسياسي للسلطة باتجاه التنسيق الأمني وترتيباته.
انتفاضة الأقصى مع اندلاعها، وجدت دعماً عربياً كبيراً سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي، الآن المستوى العربي الشعبي مُغيّب في خضّم دوّامات مشاكله الحياتية اليومية التي لا تنتهي، وغالبية المستوى الرسمي العربي يبحث عن شراكة سياسية وعسكرية مع "إسرائيل"، فأصبحت القضية الفلسطينية بالنسبة إليه عبارة عن عقبة كَأْدَاءْ أمام علاقاته مع دولة الاحتلال.
إذا أضفنا للوضع العربي، التغيّرات في موقف الولايات المتحدة الأميركية تحت إدارة الرئيس "دونالد ترامب"، الذي اتّخذ قراراً بحسم الصراع الفلسطيني _ الإسرائيلي لصالح دولة الاحتلال بالكامل، من دون أي اعتبار للحقوق والثوابت الفلسطينية، وفي مقدمها قضية القدس، بما تحمله من قداسة ورمزية للفلسطيني، مختلفاً عن الرئيس بيل كلينتون الذي حاول الوصول إلى اتفاق سياسي على الأقل يستر عورة القيادة الفلسطينية، حتى ولو على الصعيد الرمزي التمثيلي في القدس.
المقارنة ما بين انتفاضة الأقصى ومسيرات العودة وكَسْر الحصار، تطالب الكل الفلسطيني أن يغيّب التناقض الداخلي الفلسطيني لحساب التناقض المركزي مع الاحتلال، من خلال النظر لهذه المسيرات على أنها مشروع الكل الفلسطيني، ليس فقط من خلال شعارات صوتية، لكن من خلال خطوات عملية حقيقية تُفسح الطريق أمام مسيرات العودة وكَسْر الحصار للتحوّل إلى انتفاضة شعبية فلسطينية، على امتداد الجغرافيا الفلسطينية، والتواجد الفلسطيني، يستخدم بها كل الأدوات المتاحة للشعب الفلسطيني، على ضوء برنامج وطني فلسطيني جامع للكُل الفلسطيني.
حسن لافي، كاتب فلسطيني مختص بالشأن الإسرائيلي