مَن يستمع إلى التصريحات والمواقف الصادِرة عن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وعن وزراء بارزين في المجلس الوزاري المُصغَّر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينت)، يخرج بانطباعٍ بأن العدوان على قطاع غزّة بات قاب قوسين أو أدنى، وأن المسألة ليست مسألة "هل" بل "متى" تشنّ إسرائيل عدواناً على قطاع غزّة.
المنسوب العالي من التهديدات الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة ليس جديداً، الجديد فيه هو اقتران الصُراخ الإسرائيلي بذرائع ترفع عن كاهل أصحاب الرؤوس الحامية مسؤولية المُراوحة التي تشهدها مُداولات المجلس الوزاري المُصغَّر من جهة، وتعكس عَجْز المؤسّستين السياسية والعسكرية عن وضع حدٍ للحراك الفلسطيني على حدود قطاع غزّة من جهةٍ ثانية. هذا الصُراخ لا يمكن فصله عن السياق الداخلي الإسرائيلي على خلفيّة الأجواء الانتخابية التي بدأت تُرخي بظلّها على المشهد الإسرائيلي، وعن المُنافسة الحادّة بين أقطاب اليمين على حساب الدم الفلسطيني، وهي مُنافسة ليست بعيدة أيضاً عن البُعد الانتخابي وعن ادّعاء التمثيل الحقيقي لليمين الإسرائيلي.
موجة التهديدات الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة هي نِتاج مُشتَرك إذاً للعجز الفعلي عن قمع الحراك الفلسطيني وتحقيق تسوية تلبّي المصالح الإسرائيلية، وللاعتبارات الداخلية الانتنخابية والحزبية والشخصية. هذا النِتاج المشترك منشأه قناعة لدى صُنَّاع القرار في المؤسّستين السياسية والعسكرية، بأنهم أمام أزمة خيارات في مواجهة قطاع غزّة، أزمة تستحيل مُعضلة عسيرة لاعتباراتٍ تتعلّق بمفهوم الرّدع، وسُلّم الأولويات وانسداد الأُفق الاستراتيجي لأيّة مغامرة عدوانية على القطاع، فضلاً عن إشكالية مُعادلة الكلفة والجدوى غير مضمونة النتائج إسرائيلياً.
يدخل ضمن السياق الداخلي للتهديدات، الكلام الانتقادي الذي يوجّهه باستمرار عضو الكابينت ورئيس حزب البيت اليهودي الوزير نفتالي بينت- الطامِح لتوليّ وزارة الأمن كخطوةٍ لا بدّ منها على طريق وصوله إلى رئاسة الحكومة- والذي لا يفوّت مناسبة لتوجيه سِهام الانتقاد إلى "خصمه اليميني" في الحكومة وزير الأمن أفيغدور ليبرمان، ورد ليبرمان على بينت واتّهامه له بأنه تاجِر مقاعد انتخابية على حساب "أمن إسرائيل". آخر تعبيرات الوزير بينت عن فشل السياسة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة كان كلامه في مؤتمر نظّمته صحيفة معاريف، والذي قال فيه إن "سياسة القط والفأر التي تتّبعها إسرائيل ضدّ غزّة غير مُجدية". كلام بينت هذه استدعى ردّاً سريعاً من ليبرمان، وفي المناسبة نفسها، دافع فيه عن نفسه، بقوله إنه مع توجيه ضربة قاسية جداً لحماس، حتى وإن كان يعني ذلك الذهاب إلى مواجهة شاملة.، ثم غَمْزه من قناة نتنياهو وبينت وغيرهما من الوزراء بالقول " ليس الجميع في الكابينيت يتبّنون رأيي. ما العمل؟ إن مَن يتّخذ القرار هو الكابينيت، وليس أعضاء فيه. هناك الكثير من الوزراء الذين يتحدّثون عالياً في الخارج ويقولون أموراً مُغايرة في الداخل".
إن حَصْر أزمة الخيارات الإسرائيلية مقابل غزّة بالبُعد الداخلي، على أهميّته، يُعدّ تبسيطاً للمسألة وقفزاً فوق المُعضلات الحقيقية التي تعترض طريق أيّ عدوان إسرائيلي على قطاع غزّة. هذه المُعضلات نطقَ بها وزير الطاقة وعضو المجلس الوزاري المُصغَّر عن حزب الليكود يوفال شتاينتس، في مؤتمر معاريف أيضاً، ويمكن تلخصيها بـ: مُعضلة غياب الأهداف الحقيقية للعدوان؛ مُعضلة تآكل الرّدع وترميمه؛ ومُعضلة الأولويات في سُلّم التحديات والتهديدات مع ضرورة إيلاء الأولوية للتهديد الشمالي في سوريا ولبنان.
كلام شتاينتس، يكتسي أهمية مُضاعَفة لكونه يُعدّ مُقرَّباً من نتنياهو ولا تظهر في حركة مواقفه أجندة انتخابية، ولأنه لم يجد حَرَجاً في القول إنه سيتّخذ "موقف الجبان". كلام شتاينتس يُمثّل في الواقع حقيقة الاعتبارات التي تحضر بقوّة على طاولة صُنّاع القرار والتي تنعكس أزمة خيارات سياسية وعسكرية واستراتيجية ليس واضحاً بعد كيف ستخرج إسرائيل منها، وإن كان واضحاً جداً الخيار المُفضّل لها: تسوية تضمن الهدوء وتُكرّس الانقسام الفلسطيني والانفصال الجغرافي بين الضفة والقطاع.