خريطة المعارك في مدينة حمص الساخنة تتركز في القصور والقرابيص. تقدّم الجيش على محور جورة الشيّاح بطيء، لكن بتثبيت الواثق، فيما يجري العمل على قدم وساق لإنجاز مخططات البنى التحتية لإعادة تأهيل المناطق المدمّرة
حمص | ستائر تصفر للريح في حيّ النازحين. التأمل ملياً في النوافذ المفتوحة للأرواح التي ما زالت تحلّق حول أماكن حياتها القديمة، قبل أن يباغت الموت والخراب كل شيء في الحي. الفجوات تتخلل كل الجدران، بل والذكريات المرابطة في المكان. مقابل مدخل حمص القديمة تجد الشوارع مكشوفة للمجهول. من هُناك يبدأ القنص وإطلاق الصواريخ والقذائف على المناطق المتاخمة. غريب تعايش الناس مع الحرب القائمة منذ أكثر من سنة. الحرب في ريف دمشق وبقية المدن ليست بفجاجة الحرب هُنا. تداخل الأحياء بعضها ببعض مربك للزوار. وستكتشف لاحقاً أنك تسأل من معك عن اسم نفس الحي كل مرة، فالدمار متشابه ومثير للضياع. الوصول إلى بداية حي الخالدية يلزم المرور بعدة أحياء مأهولة، وقد يسأل أحد المواطنين بأسلوب أمني مزعج عن سبب وجودك في حيّه قريباً من نقاط المعارك.
أحد الضباط المسؤولين عن العمليات العسكرية يتحدث بثقة عن خط تقدم الجيش السوري، فيقول: «يمكن الإعلاميين اليوم الوصول إلى المطاحن لمتابعة مسيرة تقدم قواتنا يوماً بعد يوم». ويضيف أنّ التقدم على خط جورة الشياح مستمر أيضاً. وعلى نحو مفاجئ، يبدو الضابط متفائلاً بقرب انتهاء العمليات العسكرية في حمص. ولدى سؤاله عن القنص في محيط جامع خالد بن الوليد، يؤكد أنّ إحدى زوايا الجامع الأمامية لا تزال مكشوفة، «لكن تراجع القنص أخيراً تحت ضربات الجيش الموجعة التي يكيلها يومياً لمسلحي القرابيص والقصور». أحد عناصر «جيش الدفاع الوطني» يروي حكايات مقاتلي الجيش والقوات الرديفة له في الخالدية مع قناصي القرابيص، الذين يوجهون نيرانهم نحو ساحة الشوادر. ويؤكد الشاب أنّ الحرفية العالية لدى القناص في إصابة أهدافه بدقة، تجعله يؤكد أنه ليس سورياً. من جورة الشياح يبدو مشهد المعارك مثيراً للتفاؤل أيضاً، بالنسبة إلى ضباط الجيش السوري، حيث يثبّت الجيش تقدّمه بصمت وصبر شديدين، بالإضافة إلى الثبات والدقّة في إصابة الإحداثيات بالتزامن مع تقدّم برّي طفيف. وقريباً جداً من الحي تتواصل ضربات الجيش للمسلحين المتمترسين داخل أحياء حمص القديمة؛ إذ ما زالت الاشتباكات قائمة في باب هود والحميدية. من نافذة أحد الأبراج العالية في جورة الشياح يمكن رسم خريطة تقريبية لمناطق تركز المعارك، ويمكن أيضاً أن تفصّل معالم حيّي الحميدية والورشة: أم الزنار والسيدة العذراء والأربعين ومارليان، هي أسماء لكنائس بعضها يمثّل قيمة دينية وأثرية خاصة، تظهر سطوحها من جورة الشياح باتجاه الحميدية حيث تقع ضمن سيطرة المسلحين.
مصادر خاصة تحدثت عن نيات تسريع العمليات العسكرية في حمص بهدف الاستعداد لمعركة حلب بقوة. ومن نافذة المبنى العالي في جورة الشياح، سيبدو إلى الخلف في نقطة ما بعد الحميدية، حيّ الزهراء «الموالي». قناص الحيّ لا يزال يمارس احترافه أيضاً، محاولاً إثبات وجوده على خريطة الحرب السورية، راسماً المزيد من الموت اليومي. يختفي أياماً، ما يولّد لدى الناس ارتياحاً موقتاً، ويعود فجأة بشراسة أكبر وإصابات أكثر دقة. قدرة القناص وقحة في إصابة المدنيين، حتى داخل بيوتهم؛ إذ يروي أحد السائقين كيف أصاب القنّاص أحد السكان في عنقه، منذ ساعات، بينما كان يقف على شرفة منزله فأرداه قتيلاً. لم ينسَ القاتل النساء أثناء تأديته دوره المطلوب في تسميم حياة السكان بالخوف؛ إذ أصاب في اليوم ذاته امرأتين إحداهما أصيبت بالشلل جرّاء رصاصة في العمود الفقري. تحاشي القناص خلال المسير أصبح سمة حياة الحمصيين.
لإعادة الإعمار «لا أحلام ولا إعلام»
خبر يصل إلى مبنى محافظة حمص يتحدث عن اكتشاف مقبرة جماعية لعناصر من الجيش السوري في القصير. يتزامن الخبر مع الاستعدادات التي يقوم بها فريق محافظ حمص طلال البرازي لزيارة القصير بهدف إعادة توفير الخدمات لها، وتقديم تعويض مالي لـ84 عائلة منها من أصل 700 عائلة ضمن مخطط الدعم بعدما توقف طويلاً لأسباب تتعلق بالبيروقراطية الإدارية. من مقر المحافظ الجديد الذي عُرف عنه احترامه الشديد للوقت، يمكن استقراء شكل حمص الجديدة كما تراها القيادة السورية. لم تعد للمبنى الحكومي سمة الشعبية التي سادت في عصر المحافظ السابق أحمد منير محمد الذي حاول استقطاب الجميع، واستطاع لفت أنظار الإعلام إلى ملف المصالحة بعدما نجح في تطبيقها وتجلّت في نموذج مدينة تلكلخ. وبملاحظة بسيطة لتاريخ محافظ حمص الجديد يبدو الرجل المناسب لمرحلة منتظرة من إعادة إعمار المدينة المنكوبة التي نالت القسط الأوفر من الدمار بين مدن البلاد المشتعلة. إعادة الإعمار، في ما يبدو، الهاجس الأول لرجل الأعمال البرازي، في ضوء اهتمامه الشديد باستقبال خبرات هندسية وفنية من المغتربين السوريين، وخاصة من دولتي الإمارات وكندا، دون إغفال استثمار الخبرات المحلية. وبالنظر إلى هول الدمار في مدينة حمص، ليس خافياً على أحد خروج مناطق مترامية عن خطط الترميم؛ إذ تجري دراسة إعادة تنظيمها وتخطيطها بالكامل كمدينة حديثة تُنجز فيها، مبدئياً، البنية التحتية للطرق والكهرباء والصرف الصحي تحضيراً للبدء بإنجاز مخططات العمرانية، والنموذج هو مدينة القصير. في جعبة البرازي ملف البدء في إنشاء مدينة صناعية صديقة للبيئة ضمن أراضي تلكلخ. ونُقل عن الرجل الذي يتحرك بعيداً عن الإعلام، بعكس سلفه، قوله في اجتماعاته الأولى: «ما جايين نشتغل لا إعلام.. ولا أحلام»، في إشارة إلى ملفّات عمل عليها سابقوه. ملفّ المحافظ الجديد يركز على الإغاثة وتوفير الغذاء والماء والدواء، بالإضافة إلى إعادة الإعمار، باعتبارها أولوية لا بد منها لتخفيف معاناة المواطنين. ويشار إلى اجتماعات البرازي المتكررة مع ممثلين لمؤسسات دولية بهدف التفاوض لتأمين خروج مدنيين من مناطق يواصل الجيش تقدمه نحوها في مدينة حمص. أسبوعان فقط منذ تسلمه منصبه الجديد، كانا كافيين للبرازي للعمل على تفعيل دور مجلس المحافظة ومجلس مدينة حمص وأعضاء المكتب التنفيذي الذين لم يظهروا سابقاً على خريطة العمل ضمن المدينة.