بعد شهادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) خطب الحسن(ع) بجموع المسلمين في الكوفة بخطاب عرّفهم من فقدوا، ثم بكى وبكى الناس معه، فقال:
أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد رسول الله(ص) ، أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير، أنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، والذين افترض الله مودتهم في كتابه ([1]).
ثم قام عبد الله بن العباس بين يديه فدعا الناس إلى بيعته، فاستجابوا، وقالوا: ما أحبه إلينا وأحقّه بالخلافة، فبايعوه([2]).
وكان عدد المبايعين له أكثر من أربعين ألفاً، وكان يشترط عليهم بقوله: «أنكم مطيعون تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت»، فكانوا يبايعونه على ذلك([3]).
وأول عمل قام به (ع) بعد بيعة الناس له أن كتب إلى معاوية يدعوه إلى البيعة والطاعة والدخول فيما دخل فيه الناس، وفيما جاء في كتابه:
«... فاليوم فليعجب المتعجب من توثّبك يا معاوية على أمر لست من أهله، ولا بفضل في الدين معروف، ولا أثرٍ في الإسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب، وإنّ علياً لمّا مضى لسبيله - رحمة الله عليه - ولابن المسلمون الأمر بعده.. فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنّك تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر منك عند الله، وعند كل أوّاب حفيظ، ومن له قلب منيب.
واتق الله يا معاوية ودع البغي، واحقن دماء المسلمين.. فادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله، ومن هو أحقّ به منك، ليطفئ الله النائرة بذلك، وتجمع الكلمة، وتصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلاّ التمادي في غيّك نهدت إليك بالمسلمين، فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين»([4]).
فردّ عليه معاوية قائلاً له.. أنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني، فادخل في طاعتي، ولك الأمر من بعدي([5]).
فأمر الإمام الناس بالتحرك لقتال معاوية، كما أن معاوية حرّك جيش الشام باتجاه العراق، فخطب الإمام الحسن في الناس فقال لهم: إنه بلغني أن معاوية بلغه أنّا كنّا أزمعنا المسير إليه، فتحرك لذلك فاخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة([6]).
فسكتوا ولم يجيبوه، فقام عَدي بن حاتم الطائي، وقيس بن سعد بن عبادة، ومعقل بن قيس الرياحي، وزياد بن صعصعة التميمي يؤنبون الناس ويلومونهم على سكوتهم، ويحرّضونهم على الجهاد.
ولمّا تحرك الناس دعا (ع) عبيد الله بن العباس، وبعثه مع اثني عشر ألفاً من فرسان الكوفة، وأمره أن لا يقاتل معاوية حتى يبدأ بالقتال([7]).
حروب نفسية قبل القتال:
كثّف معاوية جهوده على ضرب جيش العراق دون قتال، وقد قام بعدة أساليب لإنزال الهزيمة به.
الأسلوب الأول - استقطاب القيادة: أرسل معاوية مع بعض جلاوزته كتاباً إلى قادة جيش الإمام الحسن(ع) يمنّيهم بالمناصب ويغريهم بالأموال، ويتبع معهم مغالطات ومراوغات يظهر من خلالها أنه سيصالح الحسن لا محالة.
فقد كتب إلى عبيد الله بن العباس فقال له: «قد راسلني الحسن في الصلح، وهو مسلّم الأمر إليّ فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً، وإلاّ دخلت وأنت تابع، ولك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم»([8]).
ولم يكن عبيد الله بن العباس ليتحمل مثل هذا الإغراء فانسل ليلاً ودخل معسكر معاوية ومعه ثمانية آلاف مقاتل([9]).
فاستلم قيادة الجيش قيس بن سعد بن عُبادة، فحثّ الناس على الجهاد فأجابوه بالطاعة، وحاول معاوية مع قيس واستجلبه بالمال، إلاّ أن قيس أجابه بجوابه الخالد: «لا والله لا تلقاني أبداً إلا وبيني وبينك الرمح»([10]).
وكثّف معاوية حملته على قادة جيش الإمام الحسن(ع) فكاتب أربعة من كبار الشخصيات في جيش الإمام كلٌ على انفراد: إن قتلت الحسن بن علي فلك مائتا ألف درهم، وجند من أجناد الشام، وبنت من بناتي، فأجابه بعضهم بالسمع والطاعة، وضمنوا له تسليم الإمام الحسن عند دنوهم من عسكره، أو الفتك به([11]).
وقد علم الحسن بمثل هذه المؤامرات فكان لا يخرج من خبائه إلاّ لابساً درعه([12]).
الأسلوب الثاني - اغتيالات في جيش الإمام الحسن(ع) : أرسل معاوية الكثير من جلاوزته لإجراء الاغتيالات السرية والليلية في جيش الإمام الحسن(ع) ، وقد شاعت كثيراً إلى درجة سلبت النوم من العسكر، فكانوا يبيتون طوال ليلهم دون نوم خوفاً من الفتك بهم، حتى ضاق المعسكر بهم ذرعاً فقرر الكثيرون اعتزال المعسكر قافلاً إلى بلاده.
الأسلوب الثالث - إشاعة الصلح: أرسل معاوية إلى الإمام الحسن، المغيرة بن شعبة وآخرون، والتقوا بالإمام ثم خرجوا من عنده وأشاعوا في أوساط الجيش أن الحسن قد قبل الصلح، يقول ابن الأعثم: «وتوالت الإشاعات مما أدى إلى خلخلة جيش الإمام وإضعاف معنوياته، وتشجيع أهل الأهواء والمنافع للالتحاق بمعاوية أو الفرار من معسكرات الجيش، فبدأت القبائل تلتحق به قبيلة بعد قبيلة حتى خفّ عسكره»([13]).
الأسلوب الرابع - القضاء على الإمام الحسن: قام معاوية بمحاولات عديدة لقتل الإمام والخلاص منه، وفعلاً تعرض الإمام الحسن(ع) وهو في قلب جيشه لعدة محاولات لاغتياله([14])، غير أنها باءت بالفشل.
هذه الأساليب التي قام بها معاوية لشلّ روحية جيش الإمام وإفقاده حيويته ومعنوياته، إضافة إلى استمالة الكثير منهم إلى صفّه، ومن جهة أخرى أن عقائد جيش الحسن(ع) وأهواءهم كانت مختلفة، إذ لم يكونوا جميعاً خارجين بوازع ديني ومبدأي، بل بعضهم كان بدافع الغنائم، وبعضهم بدافع الاستجابة لرئيس القبيلة، وهكذا استطاع معاوية افتراس جيش الإمام (ع) بمكره وخداعه، ولم يبق مع الإمام (ع) إلاّ القلّة.
في هذه الأثناء أرسل معاوية وفده يدعوا الحسن(ع) للصلح، ومعهم كتب رؤساء العشائر الذين ضمنوا لمعاوية فيها قتل الحسن أو تسليمه إليه([15])، وكان معهم أيضاً صحيفة بيضاء قد ختم معاوية أسفلها ليشترط الحسن ما يشاء([16]).
خرج الإمام الحسن(ع) وخطب في البقية من جيشه، وأخبرهم بدعوة معاوية إلى الصلح، ثم قال لهم: «.. فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبى السيوف، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا»، فناداه الناس من كل جانب: البقية البقية([17]).
الإمام الحسن(ع) والصلح
تبين من خلال العرض السابق أن الإمام (ع) لم يكن يريد الصلح، وأن البقية المتبقية من جيشه لو قبلوا بالموت لحارب الحسن معاوية ولو أدى ذلك إلى تسجيل كربلاء حسنية قبل قيام كربلاء الحسين(ع) ، ولكن من تبقى كان ينادي بالبقاء والحياة، ولا يوجد عنده تنازل عنها ولا كان موطناً نفسه على لقاء الله، ولا باذلاً فيه مهجته، ولهذا فبقاء الإمام مصمماً على القتال لا طائل تحته، بل لعله يؤدي إلى تسليم الحسن أسيراً إلى معاوية، ويستلم معاوية زمام الأمور دون قيد أو شرط، ولهذا نزل الإمام عند رغبة أصحابه بالصلح - دون أن يكون راغباً فيه - ولكن حاول ترشيده، بما يخفف من وطأة الأزمة، ويعود على الأمة بالخير إلى حد ما، وحاله في ذلك حال أبيه أمير المؤمنين في قضية التحكيم في صفين فإنه لم يقبل التحكيم، لكن لما وجد جيشه مصمماً عليه حاول ترشيده باختيار مالك الأشتر حكماً عنه.
ولذا فقد حاول الحسن(ع) ترشيد الصلح فاشترط على معاوية شروطاً تعود بالنفع والخير للأمة والإسلام، ومنها ما يلي:
1- أنه لا يحق لمعاوية أن يعهد بالأمر بعده لأحد، بل يلي أمر الناس بعده الحسن، فإن قضى فللحسين.
2- إن للحسن(ع) خراج العراق بأكمله، أو ألف ألف دينار، يضعه حيث يشاء.
3- أن يعمل معاوية بكتاب الله وسنة رسوله.
4- أن الناس آمنون حيثما كانوا في كوفتهم أو شامهم...
5- الأمان العام لشيعة عليّ وأصحابه.
6- عدم البغي على أهل البيت(عليهم السلام)،.
وعلى الرغم من قبول معاوية لهذه الشروط إلا أنه لم يفِ بواحد منها، حيث هو صرح بذلك بقوله: «إني قد أعطيت الحسن بن علي عهوداً وإني جعلتها تحت قدمي». وكان الإمام الحسن(ع) على علم ودراية بذلك، ولكن لكي تدرك الأمة خطورة ترك السلاح وأيضاً لتعيش تجربة في ظل جور بني أمية، حيث ضاق عليهم عدل علي، فلينعموا في سعة جور بني أمية.
([1]) الكامل في التاريخ 3: 170.