تطلعات اجتماعية

قيم هذا المقال
(0 صوت)
تطلعات اجتماعية

من حكم حج بيت الله الحرام ، هذه التظاهرة الايمانية والمسيرة الالهية الكبرى ، تحويل رؤية الانسان الى الدين من علاقة شخصية بينه وبين ربه الى نظام اجتماعي يسود كافة نواحي الحياة . وهي ايضاً الحكمة ذاتها المتوخاة من اقامة صلاة الجمعة والجماعة ، واغلب الشعائر التي أمر الله تبارك وتعالى بتعظيمها، قائلاً : ﴿ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَآئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج/32).

الانغلاق مشكلة بشرية:


ومن المعلوم ان الانسان منغلق بطبعه على ذاته؛ وتحوله من قوقعة الذات الى رحاب الحياة يعتبر عملية حضارية تحتاج الى الارادة والوعي ، ومن دونهما لايستطيع الانسان الوصول الى مستوى الخروج من ذاته ، والتحليق في سماء المجتمع الذي يعيش فيه. لان الانســان هو الكائن الحي الوحيد الذي يعيش ضمن دائرة المجتمع بسبب احساسه بهذه الضرورة ، ووعيه وارادته ، وكلما تجاهل الانسان الوعي والارادة كلما ابتعد عن الحضارة والتقدم. ولان هذه هي الطبيعة الاولية لدى الانسان، فان التعاليم القرآنية، وتعاليم سائر الرسالات الاخرى من الممكن ان تنحرف لديه، وتتحول من تعاليم اجتماعية وسياسية واقتصادية الى مجرد مجموعة من القيم الفردية.

وهذه هي المشكلة التي عانت منها الامم السابقة. فهي قد حولت الدين الى تجربة ومعاناة شخصية ، وسلبت منه الجانب الاجتماعي والحضاري، مكتفية بالجوانب الشخصية .

وقد ابتلي المسلمون ايضاً عبر التأريخ بهذه المشكلة ، فهم بدورهم حولوا الدين الى مجرد علاقة شخصية. وقد كانت فكرة الخروج من اطار المسؤولية ، والابتعاد عن مشاكل السياسة ، السبب في المشاكل التي عانى وما يزال يعاني منها المسلمون .

وعلى هذا الاساس فلا بد ان نلتزم بالتشريعات الالهية التي من شأنها ان تغير من نظرتنا هذه الى الدين. فاذا اردنا ان نعبد ربنا، فان علينا ان لا نكتفي باداء هذه العبادة في زاوية من زوايا البيت، بل لنتوجه الى المسجد. وقد حثتنا الاحاديث الشريفة على ضرورة اضفاء البعد الاجتماعي على عباداتنـا ؛ فان كان ثواب الصلاة في البيت عشر حسنات، فان ثوابها في المسجد يرتفع ليصل الى مائة حسنة، وان الصلاة في مسجد تقــام فيــه صلاة الجمعة اثوب عنــد الله من مسجد المحلة او الشـارع...

العلاقات الاجتماعية هي الحل:

ومن هذا المنطلق فان على المسلمين ان يقصدوا بيت الله الحرام من اقاصي الارض ليلتفوا حلول الكعبة التي جعلها الله تقدست اسماؤه قياماً للناس ، ليعبدوا الله جميعهم في موسم واحد ، وليحضروا كلهم في مكة في اشهر الحج، الى درجة ان الشريعة قد اعتبرت هذا التجمع واجباً ، فالذي لا يدرك يوم التاسع من ذي الحجة - مثلاً - ليتواجد في عرفات يكون كمن لا حج له ...

وهكذا الحال بالنسبة الى سائر التعاليم الالهية ، فعندما يأمرك القرآن الكريم بالتزام الصدق والوفاء وحسن الظن والتعاون وقول الكلمة الطيبة.. فان هذه الوصايا تقتضي منك ان تكون صادقاً مع الآخرين، وان تكون وفياً بعهودك معهم، بارا بالوعود التي برمتها معهم، لا تنابزهم بالالقاب، ولا تسيء الظن بهم ... وهذه الوصايا والتعاليم موجهة الينا كأشخاص، وكفئات، واحزاب، او اية تجمعات اخرى. فعلينا ان نكون متحلين بالاخلاق الاسلامية على صعيد الاطار الاجتماعي. فكل تجمع منا يجب ان يكون صادقاً مع التجمع الآخر، وان لايتجسس بعضنا على البعض الآخر ، ولانتنابز بالالقاب..

وعندما نقرأ سورة الحجرات، فاننا نرى ان الله سبحانه وتعالى عندما يريد ان يحدد العلاقة المثالية بين ابناء الامة الاسلامية، فانه يتحدث عن القتال الذي من الممكن ان يحدث بين طائفبين من المؤمنين، فيقول تعالى: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَاَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ (الحجرات/9)

ثم تيقول عز من قائل مركزاً على الجانب الاخلاقي : ﴿ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الإِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ ﴾ (الحجرات/11) .

ويقول : ﴿ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ (الحجرات/12) .

وعلى هذا فان العلاقة اذا ما صلحت بين طائفتين فانها ستصلح ايضاً على صعيد الافراد، لان العلاقة بين الطوائف والتجمعات هي العلاقة الاساسية ، وهي التي تخلق الحضارة إن كانت ايجابية ، او تركسنا في التخلف بل الى الجاهلية ان كانت سلبية .

وهكذا فان من حكم التجمعات الايمانية مثل الحج -كأكبر تجمع ايماني - وصلاة الجمعة والجماعة، الى اصغر عمل يقوم به المجموع؛ ان نفـهم الدين فـي اطــاره الجماعـي .

ومن ابرز واهم الادعية التي أوصي الانسان المسلم ان يدعو بها، قوله تعالى على لسان يوسف الصديق عليه السلام: ﴿ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالأَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ (يوسف/101)، وفي آيـة اخرى يقول سبحانه: ﴿ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ (التوبة/119).

وعلى هذا الاساس فان التعاليـم الالهيــة ينبغـي ان توضع ضمـن اطـار بناء المجتمع المثالي، واذا ما ضمنا تحقيق هذا المجتمع فان الفرد المثالي سيكون وجوده مضمونا أيضاً. فالفرد هو اللبنة الاولى في بناء كيان المجمتع، وهذا ما يقتضي من الانسان ان لا يعيش فرداً .

الحج مبعث عطاء:

ويعتبر الانفاق واحدا من التعاليم والممارسات الاسلامية التي تكرس روح الشعور بالمسؤولية الاجتماعية لدى الانسان المسلم. وفي هذا المجال يقول تعالى في سورة المنافقين :

﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُـوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَـاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِـينَ لاَ يَفْقَهُـونَ ﴾ (المنافقون/7).

المعلوم ان من خصائص الحج والتجمعات الايمانية الاخرى، انها تجمعات العطاء. والا لماذا ينبغي على المسلمين - فيما يتعلق بالحج - ان يتوجهوا الى الصحراء ليذبحوا عشرات، بل مئات الالوف من الاضاحي؟

أليس من الافصل - في الظاهر - ان تجمع هذه الاضحيات جميعا لتذبح في منطقة مسلمة تعاني من الجوع لتوزع فيها ، ولماذا التأكيد على الذبح في منى؟

قد تكون الحكمة من وراء ذلك اغناء روح الانسان ، وإظهار نعم الله تعالى عليه ، وتحويل التجمع الايماني الى تجمع عطاء لا اخذ. فالمسلمون يجب ان يتعودوا على غنى النفس ، ولذلك يقول عز وجل :﴿ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ فهو يملك السماوات والارض وخزائنها ، مفاتح الغيب ، وهو الذي يعطينا ، ولكنه اراد ان يطهرنا بالعطاء. فعندما يبادر الانسان بالعطاء، فان قلبه لا يلبث ان يتطهر. وهذا ما يشير اليه القرآن الكريم في قوله : ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ﴾ (التوبة/103).

فعندما نعطي الصدقة فانها بمثابة تزكية لنا ، وتنمية للتقوى في نفوسنا، كما يقول سبحانه : ﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾(الحج/37).

فالتقوى تنمو من خلال الدماء التي تسال في منى ، فتكبر الروح ، وتغنى النفس، وترتفع الهمة ، وتشحذ الارادة ، وتشتد العزيمة ، وبالتالي فان الروح الايمانية ستسمو.

اما المنافقون فانهم لايمتلكون الفهم لكي يدركوا عمق وحكمة هذه الممارسات ، فترى الواحد منهم يتصور ان الذي يعطي يصاب بالخسارة. في حين ان الذي يعطي لابد ان يأخذ اكثر مما اعطى، لان الله اعّد له اجراً عظيماً مضاعفاً في الدنيا والآخرة. فهو يعطي ليحصل في المقبل على الطيبة في القلب ، والطهارة في النفس ، والتحرر من اسر المادة ، والانطلاق في رحاب الحقيقية .

العزة في الوحدة والايمان:

ثم يقول عز وجل بشأن المنافقين: ﴿ يَقُولُونَ لَئِن رَجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (المنافقون/8) .

فهم يجهلون ان العزة الحقيقية تكمن في الوحدة والاتحاد ، والانضواء تحت راية التوحيد. فان افتخر شخص على آخر بانه اعز منه ، فان هذا الشخص لايريد العزة في الحقيقة، بل يريد الذلة من حيث لايشعر، لان التفاخر سوف يدفعه الى الاختلاف ، والاختلاف ذل .

ولذلك فان المنافقين كانوا يطلبون الاختلاف، في حين ان رسول الله صلى الله عليه وآله كان يستهدف الوحدة. وبهذه الوحدة استطاعت تلك القبائل المتناحرة في الجزيرة العربية ان تكون اكبر حضارة في التأريخ. وياليتنا نفهم منطق التأريخ، ونعود الى ابسط الحقائق في القرآن الكريم وتـأريخ امتنـا، لندرك مخاطـر هذه الاختلافـات والنعرات والطائفيات القوميات والشعوبيات التي تجعلنا نسقط في مستنقع الذلة والصغار.
ان العزة الحقيقية في الوحدة والايمان والتمسك بحبل الله، كما يقول عز من قائل: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ .

بعد ذلك يذكرنا ربنا جل وعلا بجملة وصايا تربوية واخلاقية، قائلاً : ﴿ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لآ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلآ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (المنافقون/9). أي لا تهبطوا الى الارض ‎، وتركنوا الى الاموال والاولاد، بل ارتفعوا الى مستوى ذكر الله عز وجل، لان من يفعل ذلك فهو الخاسر الاكبر.

ثم يقول ربنا تعالى: ﴿ وَأَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلآ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المنافقون/10-11).

فعندما ينظر الانسان الى ملك الموت واقفاً على رأسه ومنشغلاً في نزع روحه ، ثم ينظر نظرة اخرى الى امواله وممتلكاته وذهبه وفضته.. فحينئذ تغمر الحسرة وجودة ، ويطلب من الله تعالى بالحاح ان يمهله . ولكن الاجل اذا حل، فان كل شئ ينتهي1 .

1- الحج ضيافة الله / محمد تقي مدرسي.

قراءة 1771 مرة