في كل عام ، وعندما يقترب موسم الحج يستعد مئات الالوف من المؤمنين الذين توافدوا من اقطار الارض الى بيت الله الحرام؛ يستعدون لرحلة الحج العظيمة التي هي بمثابة بوتقة تصهر الملايين من البشر بمختلف اجناسهم، وجنسياتهم في وحدة توحيدية بالغة الصفاء والقيمة.
ايام مباركات:
ان الايام العشرة الاوائل من شهر ذي الحج، التي اشار اليها الله تبارك وتعالى في قوله: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ (الفجر/1-3)، وقوله: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ (الاعراف/142). هذه الايام تعتبر من الايام المباركة العظيمة، لان وفود الرحمان تستعد فيها للقيام بتلك الرحلة الالهية العظيمة. فلقد اذن مؤذن الرب تعالى ابراهيم الخليل عليه السلام في الناس بالحج، فاذا بقلوب الملايين تهوي الى الكعبة المباركة، والمسجد الحرام، والمشاعر المقدسة، وتتعلق بهذه الديار التي تتجلى فيها رحمة الله، وتستقطب نفوس المسلمين اينما كانوا.
ولذلك فعلى الرغم من الصعوبات والاخطار التي كانت وما زالت تهدد الوافدين الى مكة المكرمة ، وعلى الرغم من الاموال الهائلة التي لابد لكل انسان مسلم ان ينفقها ليصل الى تلك الديار.. على الرغم من كل ذلك ترى السلمن يعشقون الحج ، ويبذلون الغالي والنفيس من اجل ادائه. وهذا دليل على ان هذه النفوس انما تهوي استجابة لنداء ابراهيم عليه السلام: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ (ابراهيم/37).
ومنذ ذلك الزمن البعيد والى الآن ؛ اي بعد حوالي خمسة آلاف عام او اكثر مازال هذا البيت العتيق يستهوي الملايين من البشر، وكأنه مؤتمر الهي عظيم. فالذين يذهبون الى هذه الديار انما هم ممثلون عن المسلمين ؛ اي عن اكثر من مليارد ومائتي مليون انسان مسلم منتشرين في بقاع الارض المختلفة، صهرتهم بوتقة التوحيد ، وجعلتهم يحافظون على وحدتهم رغم انهم يتحدثون بلغات شتى ، ويعيشون في بيئات مختلفة،ويتفاعلون مع مؤثرات متفاوته. فترى الواحد منهم ينتمي الى جنس من الممكن ان لايكون الآخر قد سمع به ، ومع كل ذلك نرى هذه الامة المنتمية الى جميع الانبياء ما تزال هي الامة الواحدة كما يقول تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ اُمَّتُكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ (الانبيياء/92)
فالامة ماتزال بكل عنفوانهـا وشبابهـا ونظارتها وحيويتهـا ، وما يزال الحج هو بوتقة هذه الأمة ، والسبب الذي جعلها واحدة رغم كل الحواجز ، لان الحج يصهر هذه النفوس انصهاراً عينياً واضحاً في تلك البوتقة الواحدة.
الله قريب منا ولكن...:
ان ربنا العزيز الرحمان الرحيم قريب منا، ولكننا نحن البعيدين عنه. فالله سبحانه وتعالى لا يبحث عنه في القفار ، او في اعالي الجبال ، اوفي عمق السماء.. فهو شاهد حيث يكون الانسان حاضرا، وهو قائم قيوم حي، يسمع ويرى، كما اكد على ذلك في قوله الكريم: ﴿ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَآ﴾ (المجادلة/1)، وقوله: ﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ (طه/46).
وهكذا فان الله جل وعلا قريب منا، ولكننا نحن البعيدين عنه. كما يشير الى ذلك قوله عز من قائل:﴿ وَإِذَا سَاَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَاِنِّي قَرِيبٌ اُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِيْ وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ (البقرة/186).
اى اننا بعيدون عن الله جل وعلا لسبب واحد، هو اننا محجوبون عنه بمجموعة كبيرة من الحواجز. فالشمس تشرق كل يوم وتملأ الخافقين ، ولكن غرفتي التي أغلقت ابوابها ، واسدلت ستائرها بعيدة عن الشمس محجوبة عنها. وهكذا الحال بالنسبة الى علاقتنا بالله جل وعلا، فنحن بعيدون عنه، لاننا محجوبون عنه بالتوافه الدنيوية. فالدنيا هي اكبر حاجز بين الانسان وربه، كما يقول الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله: "حب الدنيا رأس كل خطيئة ".
والاسـوء من ذلك ان الواحد منا يعيش الانانية ، ويعيش السجن الذي وضع نفسه فيــه حتى اذا ما خرج من هذا السجن دخل في رحاب الحقيقة. ولذلك جاء في الدعـاء المعروف بدعاء ابي حمزة الثمالي: " واعلم انك للراجين بموضع اجابة ، وللملهوفين بمرصد اغاثة... وان الراحل اليك قريب المسافة ، وانك لا تحتجب عن خلقك إلاّ ان تحجبهم الاعمال دونك...".
ضرورة الاخلاص:
فلنخلص العمل والنية، ولنحطم الانداد والاصنام، فاذا بنا نجد انفسنا عند الله سبحانه وتعالى نناجيه ويناجينا، ونتحدث معه ويتحدث معنا. فقد جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله: "قلب المؤمن بين اصبعين من اصابع الرحمان"؛ اي ان هذا القلب يتقلب مع الله جل وعلا ، كما كان حال امامنا أمير المؤمنين عليه السلام الذي وصف نفسه قائلا:"ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله وبعده ومعه ".
صحيح ان عين الانسان ترى المظاهر المادية، ولكن علياً عليه السلام ينفذ ببصيرته من خلال هذه المظاهر الى رب المظاهر ، ومن خلال الدلائل الى رب الدلائل ؛ اي انه لا يرى المظهر، بل يرى ما روائه. ولذلك اكد عليه السلام على ان الخالق جل وعلا ، انما يرى من خلال البصائر والحقائق وذلك في قوله:" لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الايمان".
وعلى هذا لكي نصل الى الله جلت قدرته، ولكي نتحدث معه، ولكي نحبه ويحبنا ، ونرضى عنه ويرضى عنا.. فان علينا ان نسقط كل الاصنام التي يقف في مقدمتها صنم الانانية. فكلنا من آدم، وآدم من تراب. ومادامت حبات التراب لاتختلف، فان البشر ايضاً لايختلفون عن بعضهم إلاّ بالتقوى، كما يقول رب العزة: ﴿ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ (الحجرات/13).
وعلى هذا فان من الواجب علينا ان لانفتخر بأصلنا ونسبنا. فالنسب لايمكن ان ينفع الانسان من دون العمل الصالح. فعلى سبيل المثال ان ابن شيخ المرسلين نوح عليه السلام لم تنفعه صلته القريبة بهذا النبي، ولم تستطع ان تنجيه من الغرق، لانه لم يكن مؤمناً بالله تعالى كما يروي لنا ذلك القرآن الكريم في قوله: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ (هود /45-46).
وعلى هذا يجب علينا ان نسقط هذا الحجب والحواجز، وننصهر في بوتقة الايمان. ولذلك نجد المسلمين في مكة المكرمة عند الطواف والمسعى ، وفي عرفة والمشعر ومنى وغيرها من المشاعر المقدسة هم اقرب ما يكونون من الله جل وعلا، لانهم حطموا في تلك اللحظات جميع الحواجز. فتراهم جميعهم على اختلاف الوانهم ، ولغاتهم ، ومراكزهم الاجتماعية يهتفون قائلين: " لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، ان الحمد والنعمة لك والملك، لاشريك لك ".
فالميزات التي تميز الانسان عن الآخر تسقط كلها في موسم الحج. فعلى سبيل المثال، فان الملابس التي تعتبر من الامور التي يتميز بها انسان عن آخر ، ترى في الحج ان الجميع يرتدون لباساً واحداً متشابهاً، هو لباس الاحرام. فتتهاوى مظاهر الترف والزينة، لانها تعتبر من الامور المحرمة في الاحرام.
وهكذا ففي موسم الحج يشعر الانسان بالروحانية والصفاء. فترى النفوس تلتهب ايمانا وتتوقد معرفة بالله تقدست اسماؤه، فكلمات الدعاء تنبع من اعماق الانسان، وتختلف عما نعيشه في غير موسم الحج، حيث تحيط بنا الدنيا وزخارفها.
فلنخرج من هذا السجن الذي حبسنا فيه انفسنا، لتشرق على قلوبنا شمس الحقيقة، وحينئذ نقترب من الله جل وعلا، ونتخلص من حالة البعد والاحتجاب عنه بالحواجز والحجب الدنيوية.
في استقبال ايام الحج:
وبالاضافة الى ذلك فاننا كلما نقترب من الايام العشرة الاولى من ذي الحجة الحرام ، ونستقبل يـوم العيد الذي هو من الايام العظيمة عند الله، فان علينا ان نهئ انفسنا - إن لم نوفق الى الحج - كما يهيؤها الحجاج، ولنشاركهم في روحانيتهم ، وتوجهاتهم الانسانية ، وان نهتم في ليالي تلك الايام المباركة بقراءة القرآن والادعية واداء صلاة الليل واداء النوافل من العبادات.. والاهتمام بالتوجيهات الروحية التي من شأنها ان تخرجنا من سجن هذه الدنيا. بهذا يمكننا ان نحظى ولو على شيء من فضيلة الحج وكرامته، وان ننههل من معين فوائده الجمة1.
1- الحج ضيافة الله / محمد تقي مدرسي.