الحج، رموزٌ وحِكَمْ

قيم هذا المقال
(0 صوت)
الحج، رموزٌ وحِكَمْ

مظهر التوحيد

الخلوص شرط معتبر في تمام العبادات، إلاّ أنّ تجلّيه في بعضها يبدو أكثر ظهوراً، كما وطرد الشرك أكثر قوّةً ووضوحاً، ومن بين هذه العبادات الحجّ، الذي يتجسّد فيه التوحيد، ويظلّ من بدايته وحتى نهايته، أنموذجاً عن التوحيد ونفي الشرك، من هنا كان تركه كفراً (1).

ومعنى تجلّي التوحيد في الحج أن تنزّله في درجاته يصيّره حجاً، كما أنّ صعود الحجّ كذلك يبلغ به الله تعالى أو يتحوّل إلى التوحيد. يقول الإمام الصادق(عليه السلام) فيما ينقل عنه من دعاء سفر الحجّ: «… بسم الله دخلت، بسم الله خرجت وفي سبيل الله…» إلى أن يقول: «فإنما أنا عبدك وبك ولك» (2).

وعلى أساس هذه الرواية، يغدو الحج سيراً نحو الله سبحانه، ورحلةً إلى لقائه، وسعياً للقرب منه، ومن الواضح أنّ العبد لا يقدر على التقرّب من مولاه إلاّ بالتوحيد الدائم الأصيل، ونفي الشرك الجليّ والخفي.

الشاهد الآخر هنا كلام النبي(صلى الله عليه وآله) في سفر الحج بعد حمل الجهاز على الراحلة: «هذه حجة لا رياء فيها ولا سمعة»، ثم قال: «من تجهّز وفي جهازه علمٌ حرام لم يقبل الله منه الحج» (3).

وعليه، فالحج توحيد مجسّم وأنموذج من التوحيد الجامع، والتوحيد هو تلك الفطرة التي خلق الله الناس عليها، والتي لا تبديل لها…

الوحي المجسّم

الحجّ تمثيل للوحي، ذلك أن مناسكه تجلّت بالوحي وظهرت، وقد أخذها الأنبياء عن الملاك الأمين على الوحي جبريل(عليه السلام).

وتوضيح ذلك أنّ النبي إبراهيم(عليه السلام) طلب من الله سبحانه بعد بناء الكعبة أن يُبدي له كيفية العبادة في هذا البيت: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ (4)، وبعد هذا الطلب جاءه جبرائيل، وأنجز أمامه أعمال الحجّ، ودلّه على مناسكه بصورة عينية خارجية، ليقوم الخليل(عليه السلام)بتكرار هذه الأعمال بعده (5).

إنّ هذه الإراءة والتعليم لم يكونا شيئاً جديداً ولا من مختصات إبراهيم(عليه السلام)، بل قد تقدّمه آدم(عليه السلام) في هذا المضمار، حيث ظهر له جبرئيل، كما ظهر أيضاً على أفضل الأنبياء وخاتمهم (6)، حيث أخذ منه الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) مناسكه.

يقول الإمام الصادق(عليه السلام) في هذا المجال: «إنّ الله بعث جبرئيل إلى آدم، فقال: … إن الله أرسلني إليك لأعلّمك المناسك التي تطهر بها…» (7).

ويقول الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً: «كنت أطوف مع أبي، وكان إذا انتهى إلى الحجر مسحه بيده، وقبّله، وإذا انتهى إلى الركن اليماني التزمه، فقلت: جعلت فداك، تمسح الحجر بيدك وتلزم اليماني؟ فقال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ما أتيت الركن اليماني إلاّ وجدت جبرئيل قد سبقني إليه يلتزمه» (8).

وبعد أن اتضح أنّ الحجّ وحي ممثل، وأنّ باني الكعبة قد تعلّم مناسكه بالمشاهدة والعيان، لزم أن يكون الناس مأمورين بإقامة هذه المناسك التي ورثوها عنه، علّهم يرون بعضاً قليلاً مما كان رآه(عليه السلام)، قال تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ…﴾ (9); ذلك أن ما يفهم من كلمة (يأتوك) في هذه الآية هو مجيء الناس عند إبراهيم(عليه السلام)، وبلوغهم ما كان(عليه السلام)قد بلغه من قبل، لا مجرّد السفر إلى مكّة وزيارة الكعبة، ذلك أنّ هذا التعبير لا ينحصر بدائرة عمل المناسك والقيام بها.

فالوحيدون الذين يأتون إبراهيم(عليه السلام) هم أولئك الذين كانوا مثله في الوقوف بوجه عابدي الهوى والأصنام (10)، والتبرّي من الكفر والنفاق وما يعبدون (11)، مهيئين لتلقي ألوان المخاطر (12)، بعقيدة حنيفية وسلوك كذلك (13)، وقلب سليم (14)حاضر في محضر الله تعالى.

ومع الأخذ بعين الاعتبار هذه الخصوصيات، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ (15)، من هنا قدّم رسول الله(صلى الله عليه وآله)قربانه الذي لم يقدّمه إبراهيم(عليه السلام) نفسه، ألا وهو الحسين بن علي(عليه السلام).

ومع ملاحظة النقاط المشار إليها يتضح أمامنا سرّ عرض إمام الزمان(عليه السلام)نفسه في بداية نهضته ضدّ الظلم ولأجل العدل على أ نّه أولى الناس بالأنبياء سيما إبراهيم الخليل ورسول الله(عليهما السلام): «إن القائم إذ خرج، دخل المسجد الحرام فيستقبل الكعبة، ويجعل ظهره إلى المقام، ثم يصلّي ركعتين، ثم يقوم فيقول: يا أيها الناس! أنا أولى الناس بآدم. يا أيها الناس! أنا أولى الناس بإبراهيم…» (16).

ومن ذلك كلّه يتضح البُعد السياسي للحج، أي البراءة من المشركين وتجافيهم وإعلان الانزجار منهم، وقطع أيديهم وتدخلاتهم، ذلك كلّه بشكل واضح وعلني هو ما يمثل المناسك السياسية للحج.

 المعاد المجسّم

لا يُعثر على الحج بمناسكه الخاصة به في أ ي عبادة أخرى، ولا يعلم تأويلها غير الله سبحانه، فهو معاد مجسّم، وحكاية عن يوم البعث والنشور، وكاشف واضح عن يوم الحشر، ذلك أن الناس تلبي هناك نداءاً واحداً على مابينها من اختلاف في اللغات والألوان، فتجيب أمراً واحداً، وتستجيب لصرخة واحدة، ولا آمر يُصدر أوامره لهم عدا الله الواحد القهار.

إن مناسك الحج أنموذج حيّ لأحداث القيامة والحشر الأكبر، وتمثُّل جلي لحشر الناس يوم القيامة عراة في يوم معاد.

ونشير هنا إلى نماذج من تجلّي المعاد في الحجّ:

1- اجتماع الحجاج في المواقيت وعند المواقف.

2- انفراد كل إنسان لوحده في ظلّ هذا الجمع، تماماً كما هو الحال يوم المعاد، فهو وإن كان «جمعاً» تلتئم الناس فيه وتلتف حول بعضها ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ﴾ (17)، ﴿إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ / لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ (18)، إلاّ أ نَّه يوم يعود الجميع فيه إلى الله فرادى، كما قال تعالى: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ (19).

3- فرار الناس من غير الله إلى الله تعالى، كما يقول الإمام الباقر(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ (20): «حجّوا إلى الله عزّوجلّ» (21).

4- تعرّيهم من اللباس ومظاهر الحياة الدنيوية.

5- تجرّدهم عن زينة الدنيا وبهرجها.

6- رؤية الآيات الواضحة التي كانت مخفيةً عليهم في ديارهم.

7- خلعهم على أنفسهم لباس الإحرام، وهو لباس شبيه بالكفن، ويستحب للحاج أن تكون قطعتا الإحرام كفنه، كما كُفّن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) في لباس إحرامه (22).

8- تذلّل الحجيج وتواضعهم أمام الله سبحانه، حتى أ نّهم يحجون مشاةً حفاةً بأرجل عارية، ذلك أ نّه «ما عبد الله بشيء أفضل من المشي» (23).

من هنا، حجّ الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) عشرين حجةً ماشياً (24)، وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «جُعل السعي بين الصفا والمروة مذلّةً للجبارين» (25).

9- اعتراف الناس بذنوبهم التي ارتكبوها.

10- أمن الناس بل والوحوش والطيور.

11- حماية الحجاج من التعدّي والجدال، وكلّ ما يوجب أذية المحرم أو عذابه، وهو تجسيدٌ واضح لقوله تعالى: ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ (26).

وحصيلة القول: الحج مظهر المعاد وتجسيده، وحيث كان المعاد رجوعاً إلى المبدأ كان أساساً للإسلام الكلي والخالد، لذا غدا الحج من أهم مظاهر الإسلام وأركانه.

الولاية روح الحج

لا نفع للحج بدون الولاية، ولا لقصد الكعبة من دون الإمامة، ولا لحضور عرفات دون معرفة الإمام، ولا للأضحية في منى دون التضحية في طريق الإمامة، ولا لرمي الجمرة دون طرد شيطان الاستكبار الداخلي والخارجي، ولا للسعي بين الصفا والمروة دون السعي لمعرفة الإمام وطاعته… ذلك أ نّه وإن كان من أركان الإسلام ومبانيه، إلاّ أنّ الحج والصلاة والزكاة والصوم لا يضاهون الولاية في ركنيتها الراسخة والقوية للإسلام، «ولم يُناد بشيء كما نودي بالولاية» (27).

منشأ حرمة الكعبة وعزّتها

من جملة الأمور التي أقيمت عليها البراهين العقلية، ضرورة انتهاء كلّ ما بالعرض إلى ما بالذات، ووفقاً لهذا المبدأ الذي توافق عليه البرهان والقرآن، وكما أنّ كلّ عزّة- طبقاً لتصريح النص القرآني- تنتهي إلى عزّة الله سبحانه: ﴿لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (28) و ﴿لِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ (29)… وفقاً لذلك كلّه فإن حرمة الكعبة وعزّتها لابدّ أن تنتهي إلى حرمة الحقّ سبحانه وعزّته تماماً، كما إذا دار الأمر بين هدم الكعبة وهدم الحقّ فإن الكعبة تغدو حينئذ قرباناً فداءاً للحق.

ولتوضيح الأمر لابدّ من القول: للحرم أحكام تبيّن عزّته وفضيلته، وتمام هذه الأحكام ناتج عن حرمة الكعبة وعزتها، وشاهد ذلك ما جاء في الرواية عن أميرالمؤمنين(عليه السلام)حول سرّ الوقوف في عرفات، وعدم وجوب الوقوف في الحرم حيث قال: «لأن الكعبة بيته، والحرم بابه، فلّما قصدوه وافدين وقفهم بالباب يتضرّعون»، ثم سئل الإمام(عليه السلام) عن جعل المشعر الحرام من الحرم فقال: «لأنّه لما أذن لهم بالدخول وقفهم بالحجاب الثاني، فلمّا طال تضرعهم بها أذن لهم بتقريب قربانهم، فلمّا قضوا تفثهم تطهّروا بها من الذنوب التي كانت حجاباً بينهم وبينه أذن لهم بالزيارة على الطهارة» (30).

وعليه، فحرمة الأرض التي احترم الله كلّ ما فيها إنما جاءت من حرمة الكعبة نفسها، إلاّ أنّه مع كون الكعبة القبلة الوحيدة، ومطاف العالمين، وموت المسلمين جميعهم إلى جهتها، والقصد إليها قصدٌ للهجرة إلى الله سبحانه، وأيضاً رغم أنّ لمكّة خصائص فقهية وسياسية ثابتة، تفتقدها سائر الأماكن والبقاع والمدن، ورغم أن للحج ومواقفه أبعاداً سياسية- عبادية تفتقدها بقية العبادات… إلاّ أن تمام هذه الخصائص والمزايا مرهونة للولاية والإمامة.

وسرّ هذا الكلام أن الإرشادات والإدارات الملكوتية للأعمال والنيات، والأدعية، ومشاهدة الآيات البينات، وفهم الأسرار المعنوية للحج، وأمثال ذلك يتمّ جميعه في ظلال الولاية التكوينية للإمام المعصوم(عليه السلام)، كما أنّ الإدارة والرعاية السياسية للحج ومواقفه، وتوجيه حركة هذا الاجتماع العظيم للصالحين على محور البناء الطاهر الحر، والاستفادة من أفكار أقطار العالم، وارتواء عطاشى الاستقلال والنجاة من الاستعباد والاستكبار العالمي، إنما يكون بالأصالة تحت مظلّة إمامة الإمام المعصوم(عليه السلام) وبالنيابة في عصر الغيبة تحت شعاع نوّابه.

ارتباط الحج وشؤونه بالولاية

ترتبط الجوانب والشؤون المختلفة للحجّ بالولاية، ونعرض هنا شرحاً لكيفية هذا الارتباط بين الكعبة والولاية، وكذلك طبيعة العلاقة بين كلّ من عرفات والمشعر ومنى وزمزم والصفا و… وبين الإمام المعصوم(عليه السلام)، وذلك في ثقافة الوحي ووفق ماجاء على لسان الأئمة المعصومين(عليهم السلام).

1- تتمتع مدينة مكة ودائرة الحرم كلّه ببركة خاصة إثر دعاء الخليل إبراهيم(عليه السلام)، وقد جعلت بهذا الدعاء بلداً آمناً، تماماً كما يقول الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (31).

إن هذا الأمن الاجتماعي، والاقتصادي وغيره، الذي جاء بيانه في آية ﴿أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ (32) وآية: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ (33) إنما كان لما للكعبة من حرمة، إلاّ أنّ هذا الاحترام الخاص الذي كان أساساً لقسم الله سبحانه بهذا البلد إنما جاءها من بركات الوحي، والنبوة، والرسالة، والولاية.

وتوضيح ذلك، أن القرآن الكريم أقسم ببلاد وبقاع هامة وتاريخية، كما أقسم بالزمان والأوقات الحسّاسة والتاريخية، نظير عصر الوحي والرسالة (34)، قال تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ / وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ (35).

ففي هذه الآيات يقسم الله سبحانه بأرض مكّة، لكن قسماً مقيداً بكون نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله)فيها، وإلاّ فإن مكة من دون النبي، والكعبة من دون قائد سماوي ليستا سوى أرض عادية وبيت عادي غدا تدريجياً بيتاً لعبادة الأصنام، وأصبح أسيراً في قبضة عبدة الأوثان والسائرين خلف ميولهم وشهواتهم حتى أن «أبو غبشان» سادن الكعبة ومن بيده مفاتيحها يبيع مفتاح الكعبة وغلقها إلى رجل يدعى قصي بن كلاب مقابل بعير وزق خمر، وذلك في ليلة ثملة (36).

2- ويعرّف الإمام السجاد(عليه السلام) نفسه وسائر الورثة الحقيقيين الإلهيين في المسجد الجامع بدمشق، بعد الحمد والثناء الإلهيين، والسلام على النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)فيقول: «.. أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا» (37).

إن كلمة «ابن» وأمثالها في اللغة العربية تحكي عن علاقة شديدة وارتباط دائم ومستحكم، فالإنسان الكامل، وهو أصل حرمة المراكز العبادية، وفي الوقت عينه إبنها ووارثها، يرجع في طليعة الأمر إليها ويعمل طبق أحكامها، بل يجعل ذلك كلّه ضمن الشعارات الرسمية للموحدين، فيرغب فيها، ويرهب من الإعراض عنها أو الاعتراض عليها أو معارضتها، وفي المحصّلة النهائية: إنّه حافظ مآثرها وحارس آثارها، إن الأنبياء والأولياء الإلهيين(عليهم السلام) هم كذلك بالنسبة إلى مناسك الحج.

وبعبارة أخرى: إنهم أبناء هذه المواقف العبادية بلحاظ بعض النشآت الوجودية، وهم أمراؤها وأصلها ومصدرها بلحاظ نشآت وجودية أخرى.

ومعنى الكلام النوراني للإمام السجاد(عليه السلام) أن الابن الحقيقي لمكّة إنما هو حامي روح القبلة، وحارس قلب المطاف ونفسه، إن الابن الواقعي لمنى هو ذاك الذي لا يأسف على إيثار بدم أو نثار، بغية حفظ الوحي وما فيه، إنّه يُحكم علاقته بأرض التضحية عبر الفداء والعطاء.

إنّ المولود الحقيقي لزمزم إنما هو الذي يرشّ أفضل الدماء تحت أقدام غرس الإسلام حتى تنمو بذلك وتكبر، كما أن الابن الواقعي للصفا هو الذي لا سبيل للرجس والنجس والرجز إلى حرم قلبه، فهو منزّه- طبقاً لآية التطهير (38)- عن مختلف أنواع الرجس، وكل قذارة ولوث ودنس.

لانفع للحجّ بدون الولاية، ولا لقصد الكعبة من دون الإمامة، ولا لحضور عرفات دون معرفة الإمام الإنسان الكامل هو الإمام المعصوم(عليه السلام) والذي بدونه لا حرمة للحرم ومواقفه، من هنا، فالزائر الذي لا يعرف الإمام المعصوم، ويضع جانباً مسألة الإمامة، ويتخذ إدارة أمور المسلمين في العالم هذواً وباطلاً، ويفصل ما بين قيادة سواد الناس وبين الحج والزيارة وسائر العبادات، ويراها أمراً عادياً يرجع إلى خيار كل فرد من الناس، ولا يرى كرامةً لهداية خلق الله وتدبير أمورهم… لا يعرف في الحقيقة الإنسان، بل لم تطأ قدمه حريم الإنسانية، من هذا المنطلق يتحدّث الإمام الباقر(عليه السلام)عن مثل هذا الزائر والحاج فيقول: «أترى هؤلاء الذين يلبّون، والله لأصواتهم أبغض إلى الله من أصوات الحمير» (39).

ومع الأخذ بعين الاعتبار مقولة رسول الله(صلى الله عليه وآله): «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتةً جاهلية» (40) و «كما تعيشون تموتون، وكما تموتون تبعثون، وكما تبعثون تحشرون» (41)، فإن حياة الإنسان الذي لا يعرف إمامه هي حياة جاهلية، وكلّ سننها وشؤونها إنما هي جاهلية في جاهلية، ومن المؤكد قهراً أن زيارة مثل هؤلاء للبيت وحجهم سيكون حجاً جاهلياً، ولن يكون لهم نصيب من الحج التوحيدي، وسيأتي مزيد توضيح.

3- لقد أعدّ الله سبحانه عذاباً لكل من أراد بالكعبة ظلماً وقصداً سيئاً: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (42)، من هنا وانطلاقاً من هذه السنّة الإلهية التي لا تبديل فيها، والحكم الإلهي الخالد، لم تكن واقعة الفيل، والتي تلقّى فيها جيش أبرهة عذاباً إلهياً، واقعةً حصرية لا تكرار فيها أو مجرد صدفة تاريخية.

الأمر الرئيس الذي لا ينبغي الغفلة عنه، وهذه الدراسة متكفلة لبيانه، هو أنّ الكعبة رغم قداستها الخاصة، وحمايتها- منذ قديم الأيام- من أذى حملات أصحاب الفيل وأمثال ذلك، إلاّ أنّه عندما التجأ إليها ابن الزبير وتحصّن فيها، أقدمت حكومة ذلك العصر الجبارة، وعلى يد المنحوس الحجاج الثقفي على قصف الكعبة بالمنجنيق وتدميرها، ثم اعتقال ابن الزبير (43)، دون أن تمتدّ يدٌ من الغيب لتفعل فعلها أو تتدخّل.

يتحدّث الشيخ الصدوق، المحدّث الشيعي الشهير، عن هذا الأمر فيقول: «وإنما لم يجر على الحجّاج ما جرى على تبّع وأصحاب الفيل; لأنّ قصد الحجاج لم يكن إلى هدم الكعبة، إنّما كان قصده إلى ابن الزبير، وكان ضدّاً لصاحب الحقّ، فلمّا استجار بالكعبة أراد الله أن يبيّن للناس أنّه لم يجره، فأمهل من هدمها عليه» (44).

وعليه، فاختلاف أبرهة عن الحجاج في أ نّه ظالم أراد تخريب الكعبة وتدمير القبلة، أما الحجاج فلم يكن يقصد الكعبة بسوء، بوصفها قبلةً ومطافاً، بل كان يريد- فقط- السيطرة على ظالم مثله لم يكن يعرف إمام زمانه، ألا وهو سيد الشهداء والإمام السجاد(عليهما السلام).

نعم، الحجاج كابن الزبير جرثومة لا تعرف الحق، وعنصر مناهض للولاية، وقد كان الطرفان ساعيين للإطاحة بنظام ولاية أهل البيت(عليهم السلام)، وكان خصامهم على حطام الدنيا، لا لعدم مساعدة ابن الزبير لسيد الشهداء والإمام السجاد(عليهما السلام).

ومن هذا الحدث يتضح جيداً أن معارضة الولاية والإمامة أمر منبوذ جداً إلى حدّ أنّ كلّ من يخالف قيادة الإمام(عليه السلام) ويذره وحيداً فريداً دون أن يساعده، بل يتخذ موقفاً مضاداً له، ثم يزعم لنفسه أنه داعية الولاية، لن ينعم بالأمان الخاص الإلهي حتى لو احتمى بالكعبة وقصدها.

ومن هذه الحادثة يعلم جيداً قدر الإمام وحرمة الولاية وعزّة الخلافة الإلهية، تماماً كما يعلم قدر حقه (الإمام) ونورانيته، وجماله، وجلاله، وكبريائه، ومشيئته، وقدرته جيداً بالتحليل العقلي، ذلك أن حرمة الحرم والبلد الأمين إنما تنتهي إلى الكعبة، وحرمة الكعبة تنتهي إلى الإمام الذي اختاره الله سبحانه للولاية، وحرمة الإمام تنتهي بدورها إلى الحق المطلق، أي الله تعالى الذي تخضع له تمام الموجودات وتخشع في حضرته ومكانته.

وعليه، فلو أمهل الله سبحانه ظالماً ليخرّب الكعبة، فلا ينتقض بذلك قوله تعالى: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (45).

تذكّر:

رغم أنهم قتلوا الإمام المعصوم(عليه السلام) وغدا على يديهم شهيداً، إلاّ أنّ حقيقة الإمامة قائمة بروحه الملكوتية التي لا مجال للشهادة فيها، ولا سبيل للموت إليها، على خلاف بدنه الذي يعرف الشهادة، وهذا ما يختلف الحال فيه مع الكعبة التي لا وجود فيها إلاّ للأحجار والأبعاد المادية.

4- ويشاهد الإمام الباقر(عليه السلام) الطائفين بالكعبة، فيقول: «هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية»، فلم يأت الإسلام لكي تستمرّ السنن الجاهلية، ثم يقول: «إنما أمروا أن يطوفوا، ثم ينفروا إلينا، فيعلمونا ولايتهم، ويعرضوا علينا نصرهم» ثم قرأ: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ (46).

وعليه، فثمة وظيفتان على كاهل القادمين من بعيد أو قريب للتشرّف بالكعبة المعظمة هما:

أ- أن يطوفوا ببدنهم حول الكعبة، بوصفها طيناً وأحجاراً.

ب- أن يطوفوا بأرواحهم حول «كعبة القلب» وحرم ولاية أهل بيت النبوة.

وعليه، فأولئك الذين جاؤوا بأرواحهم ليعرضوا ولايتهم على أهل البيت(عليهم السلام)، ويعلنوا جهوزيتهم للتضحية والفداء وتقديم النفوس والإيثار بالمال يحققون حينئذ «حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر» (47).

5- يقول الإمام الباقر(عليه السلام): «تمامُ الحجّ لقاءُ الإمام» (48)، بعرض الولاية عليه والإعلان عن الاستعداد للفداء والتضحية; وعليه فالحج الذي لا ظهور فيه للإمام والقائد والمرشد سيكون حجاً ناقصاً.

نعم، ذكر الحج في هذا الحديث الشريف إنما جاء من باب التمثيل، لا التعيين، أي أنّه ليس الحج فقط حاله «تمام الحج لقاء الإمام»، بل إنّ «تمام الصلاة والصيام والزكاة لقاء الإمام» أيضاً.

ويؤيد هذا الكلام، أي أن الصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات إنّما يتممها لقاء الإمام وتولّيه، ما جاء في قسم من الحديث المعروف الذي يتحدّث عن قيام الإسلام على خمسة أسس، إذ- وفي إطار التأكيد على مبدأ الولاية- يشير الحديث إلى دور «الوالي» وكونه حجةً ودليلاً على الأركان الأربعة الأخرى، فيقول: «والوالي هو الدليلُ عليهنّ» (49).

وهذه المسألة مستفادةٌ من الآية الكريمة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ (50)، فقد رضي الله سبحانه لنا الإسلام مع الولاية الإلهية، وعليه، فليس الحج وحده «تمام الحج لقاء الإمام» بل يمكن القول: «تمام الإسلام لقاء الإمام».

ونشير أخيراً إلى أنّه رغم انتهاء احترام الحرم بالكعبة، وحرمة الكعبة بالوحي والنبوّة والرسالة والولاية، إلاّ أنّه- وكما أشرنا مطلع هذا البحث- تختتم تمام هذه الحرمات بالحرمة الإلهية.

من هنا ذكر الله تعالى في إطار شرحه لسبب احترام الكعبة ما جعلها تنتسب إليه فقال: ﴿بَيْتِيَ﴾ (51)، أي أنّ الحرمة الذاتية لله سبحانه هي السبب وراء الحرمة العرضية للبيت الذي ينتسب إليه، حتى لو كانت الكعبة هي الأصل في حرمة الأشياء اللاحقة.

الحج والوجه السياسي

الحج مظهر الحكومة الإلهية السامية

الحج- كما تبيّن- مظهر لأصول الدين المتينة وتجسّدٌ للعقائد الثلاثة:

التوحيد، والنبوّة والعدل، تلك الأصول التي تعدّ ثماراً لشجرة الإسلام الطيبة.

وأحد أطهر هذه الثمار في هذه الشجرة الطيبة هو الحكومة الإسلامية، وهي من أهمّ مظاهر الإسلام، فالمجتمع الذي لا يديره الله ولا يسري فيه أمره مجتمع كفر وطغيان، ومعبود مثل هذه المجتمعات إنما هو الأهواء المختلفة والرغبات المتنوّعة.

بهذه المقدّمة، نصل إلى فهم أسرار بعض مضامين أدعية عرفة، فالمضمون المشترك لدعاء سيد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام)- وهو أهم دعاء في عرفة- مع دعاء الإمام السجّاد(عليه السلام) الذي اعتبر وجودَ الإمام العادل أساساً لإحياء آثار الدين… المضمون المشترك هو أهمية الولاية في النظام الإسلامي.

وثمة شواهد عدّة على أن الحجّ مظهر الحكومة الإسلامية، وأن لهذه الحكومة تأثيراً على بقائه واستمراره وتكرّره، نشير إليها هنا على الترتيب التالي:

1- كان من أدعية إبراهيم وإسماعيل(عليهما السلام) عند بناء الكعبة: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ (52).

وسرّ هذا الدعاء والطلب أن الموحدين قد دعوا للحج من تمام نقاط العالم المختلفة وفي تمام الأزمنة والعصور، إذاً فلابد أن يكون هناك من ينظم أمورهم، فعلاوةً على المناسك العبادية للحج لابد أن تكون لديهم أصول وأحكام أخرى تتعلّق بحياتهم السياسية، وهذه هي الحكومة الإسلامية عينها، التي تغدو ضرورةً لتنظيم أمور الحجيج وسياستهم وإرشادهم.

إنّ الدين الذي يقول: «إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمّروا أحدكم» (53)، حاشاه أن يذر الناس على حالهم هناك، ولا يضع على هذا الجمع العظيم الذي لا يحصى حاكماً أو آمراً، بل يتركهم يسيّرون أمورهم بأهوائهم ورغباتهم.

وبناءً عليه، كان لزاماً أن يكون هناك من يكون القائد لهم والرائد فيهم، حتى تنظم معاملاتهم، وتصوّب نزاعاتهم، وتنتهي خصوماتهم، وترتّب أنماط معيشتهم وعلاقاتهم ببعضهم بل وعلاقاتهم بسائر الملل والشعوب.

على هذا الأساس، يقول الإمام علي(عليه السلام) لواليه على مكّة: «أقم للناس الحج» (54)، والمستفاد من هذا الأمر أنّ الحجّ لم يقم بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) طيلة خمس وعشرين عاماً، عنيت الحج الإبراهيمي والمحمدي (55).

2- يجب على مرشد الدولة الإسلامية وقائدها، أن ينفق قدراً من بيت المال لدفع الناس إلى الذهاب إلى مكة عندما يمتنع عامة المسلمين عن الذهاب إليها أو لا يكون ذلك في مقدورهم، فيدعم مالياً العاجز، ويجبر الممتنع على ذلك.

جاء في الحديث: «لو عطّل الناس الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحج، إن شاؤوا وإن أبوا، فإن هذا البيت إنما وضع للحج» (56).

وسرّ تعبير الإمام الصادق(عليه السلام) في هذا الحديث: «إن هذا البيت إنما وضع للحج»، هو أن للكعبة خصوصيات قيمة تدفع الناس للسفر إليها، فإذا لم يسافروا إليها- لقصور أو تقصير- ولم يؤدوا فريضة الحجّ عندها، كان على والي المسلمين أن يجبرهم حتى يتجهوا ناحية البيت الحرام، ويلتحقوا بدائرة الطواف، ولا يتركوا ذلك.

إن هذه هي الحكومة الإسلامية التي يديرها حاكم عادل، ويكون بيت مال المسلمين في يده.

جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) في حديث آخر: «لو أنّ الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك، وعلى المقام عنده، ولو تركوا زيارة النبي(صلى الله عليه وآله)لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك، وعلى المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين» (57).

ويستظهر من هذه الرواية أن زيارة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) بمنزلة تجديد للبيعة معه والميثاق لتحكيم الحكومة الإسلامية.

3- قال الإمام الباقر(عليه السلام): «إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار، فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم، ويعرضوا علينا نصرهم» (58).

فإذا كانت الحكومة والولاية بغير معنى السياسة فلا حاجة لإخبار الإمام بالولاية وعرض النصرة عليه.

4- يتجلّى الإسلام الذي بعث به الأنبياء في التوحيد الذي يطرد مختلف أنواع الشرك وألوانه، ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ (59).

ولا ينحصر هذا الإبعاد للشرك والطرد له في مجرّد الاعتقاد القلبي أو الذكر القالبي، بل يستوعب إعلان الانزجار، ونداء التبرّي، وصرخة البراءة من الطغاة الأراذل وكل متجبّر متمرّد لئيم، وهذا ما يتحقق في الحج، ذلك أ نّه موضع «الإعلام» و «الأذان» بتبرّي الإسلام من ألوان الشرك، وأن المسلمين بريؤون من المشركين، وأ نّه لا مودّة ولا أُلفة بين المسلمين والمشركين: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ (60).

ومفاد هذه الآية تبلور البُعد السياسي في الحجّ، وتجلّي الاستقلال الثقافي، حتى لا تبقى سيطرة لأحد من الكفار والمشركين على أيٍّ من المسلمين، فهل يمكن أن يكون ذلك غير تجسيد لأرفع مراتب الحكومة الإسلامية في الحج؟ وهل يمكن طرد رؤوس الإلحاد وتدمير مواقعهم ومتاريسهم إلاّ في ظلّ الحكومة الإسلامية؟!

إذا لم يكن للإسلام حضور سياسي في منى، وهي التي فسّر بها «الحج الأكبر» (61)، فلا يمكن إعلان البراءة من عمّال الجور وعبدة الطاغوت، تماماً كما لا يمكن قيام الناس والمقاومة بحجم العالم، ونشر الاستقامة وتعميمها على العالم- وهو ما بُنيت الكعبة لأجله- سوى بإقامة نظام إسلامي.

ولعلّه لهذه الأسباب أو سائر الأسرار الإلهية المستورة عنا، لم يحج سيد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام) عام 60 للهجرة رغم مجيئه إلى مكّة، فأدى عمرةً مفردةً احتراماً للكعبة (62)، ويؤيّد ذلك، ما جاء في كلامه(عليه السلام) في دعاء عرفة حول الحكومة الإسلامية.

ولمزيد من إيضاح فكرة ظهور الحكومة في الحج وتجلّيها فيه، لابدّ من التركيز المضاعف على ما قام به الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع، وما قاله للناس، وما قرّره لهم من القضايا السياسية الهامة وغيرها.

المظهر التام للتبرّي من الطاغوت

بُعث الأنبياء الإلهيون جميعهم كي لا يفرش نسر الشرك وطائره ريشه فوق قلّة هرم التوحيد، وأن لا يحرموا بشيطان الطاغوت والعصيان في حرم الوحدانية السامي (63)، فالكعبة والحج والزيارة محور التقوى، وأساس الاجتناب عن الطغيان، والتمرّد في وجه الطاغوت.

لقد أظهر المولى سبحانه مناسك الحج بالوحي لخليله إبراهيم (64)، ولا ثمر لذلك ولا نتاج سوى التوحيد، وهذه المناسك التوحيدية هي التي علّمها خاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله)لسالكي طريقه ومتّبعيه، حيث قال: «خذوا عني مناسككم» (65).

وحيث قام بناء التقوى الفولاذي على قاعدة التوحيد التي لاتهتز أو تختلّ، وكان الحج هو التجسيد الجلي للتوحيد; قال الله سبحانه- ضمن إصداره أوامر الحج -: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ… وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ (66).

وحول الأضحية، وهي من مناسك الحج، التي كانت ممتدّة في تاريخ السنن والعادات الجاهلية مشوبةً بالشرك، يكلّمنا الله تعالى في إرشاد تقوائي فيقول: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ﴾ (67)، أي يناله الاجتناب عن الذنوب، والقيام ضدّ العاصي، والتورّع عن المعصية، والثورة ضدّ المذنبين المتمرّدين، والإمساك عن العصيان، والصرخة ضدّ العاصي، والاجتناب عن الطغيان، والهجوم على الطواغيت و… كلّ عبادة هي تبرؤ من الشرك وانزجار من الطاغوت، أما الحج فهو عبادة خاصة امتزجت بالسياسة واختلطت، وإن حضور مختلف شرائح المجتمع العالمي وطبقاته يمثل ظرفاً مناسباً لتجلي روح هذه العبادة- كسائر العبادات الإلهية- في هذا الجمع العظيم، وظهور هذه العبادة الممتازة في تلك الساحة ظهوراً تاماً.

من هذا المنطلق، أمر رسولُ الله(صلى الله عليه وآله)- بأمر من الوحي الإلهي- الناطقَ باسم الحكومة الإسلامية- وهو علي بن أبي طالب(عليه السلام)- أن يعلن البراءة من المشركين (68)، حتى تمتاز بشكل قاطع حدود التوحيد عن الطغيان والشرك، وتتخارج صفوف المسلمين المتناسفة عن صفوف الكفار، فتظهر- عبر ذلك- الصورة السياسية العبادية للحج، ويحمل زوّار الكعبة زاد التوحيد معهم مع استماعهم إلى قرار الحكومة الإسلامية الصادر بالانزجار من الشرك، وإعلان نبذ الصلح والمصالحة مع المشركين (69).

من هنا، ينتشر قرار التوحيد وإعلانه ببركة الكعبة في أقطار العالم المختلفة، تماماً كما يتوجه المسلمون كافة في الكثير من شؤون حياتهم ناحية الكعبة.

محور البراءة من المشركين

لا كمال أرفع ولا أسمى من نيل التوحيد الأصيل الخالص، ولا يمكن ذلك ولا يتسنّى إلاّ بالتنزه والتبرّي التام من مختلف ألوان الشرك والإلحاد، والرفض لكلّ مشرك وملحد.

من هنا، جعل الله سبحانه الكعبة بيت التوحيد، واعتبرها محوراً للبراءة من الذنوب والعصيان والتهاوي، بل مهّد لذلك وهيأ سبله عبر الأمور التالية:

أولاً: أصدر المولى سبحانه وتعالى أوامر لخليله إبراهيم(عليه السلام) بعد إتمام بناء البيت العتيق الطاهر، بيت المواساة والمساواة، وبعد تشريع قرار الأمن للحرم أمام الضيوف والزوار والركع السجود والعاكفين والطائفين، فقال: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ (70).

والهدف من هذا الإعلان العام دعوة أولئك القادرين على الحضور بشكل طبيعي ومتعارف.

ثانياً: عندما يأتي الجميع، من الشرق والغرب، ومن الشمال والجنوب، ومن القريب والبعيد… فيشتركون في هذا الملتقى الشامل الواسع، تصل النوبة للإعلان المحمدي والأذان، من هنا قال تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ (71).

كان هذا الإعلان الذي سبق مقدّمةً للإعلان الثاني، الذي هو الهدف النهائي لبناء الكعبة، وإعلامه هذا الهدف النهائي يعني الوصول إلى التوحيد متبلوراً على صورة إعلان براءة الله ورسوله الأكرم(صلى الله عليه وآله) من المشركين، ومادام الإنسان حياً يرزق على وجه البسيطة فإن الحج والزيارة يبقيان في عهدته وضمن مسؤولياته، ومادام ثمة مشرك في هذا العالم مادام إعلان البراءة منه جزءاً من أهم وظائف الحج.

من هنا، تتضح مسؤولية نهوض الأمّة لتطهير الكعبة المقدّسة من ولاية الطغاة والنفعيين الوصوليين، أولئك السرّاق الذين قال عنهم الإمام الصادق(عليه السلام): «أما إن قائمنا لو قد قام لقد أخذهم، فقطع أيديهم، وطاف بهم، وقال: هؤلاء سرّاق الله» (72)

إنّ القيام لتطهير الكعبة وتخليصها من يد الأشرار شريعة إبراهيمية، لا يصرف النظر عنها سوى فاقد العقل، ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ (73).

وحيث كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومن اتبعه وآمن به أولى الناس بإبراهيم، وهو الذي طهّر الكعبة من ألوان اللوث والنجاسة والخسّة و… (74) فعلى الأمة الإسلامية اليوم أن تطهّر بيت الله سبحانه من مختلف القبائح والدنائس والنجاسات.

نعم، ليس المقصود مجرّد إبعاد الجسم المادي للمشرك حتى يُقال: لا مشرك في الحجاز اليوم كي يحصل التبرّي منه في موسم الحج! بل المراد من البراءة إعلان الرفض والتنديد والانزجار من كل فكر مشوب بالشرك، وكلّ تمدّن باطل لأولئك الذين تأثروا بهذا الشرك، وكل استعمار ظالم للملحدين، وكل استثمار طاغ للماديين، وكل استعباد قاس مجحف للمستكبرين، وكلّ استعمار سامريّ (75)للإسرئيليين، وكل استضعاف ماكر للدول العظمى.

والحج أهم الأمكنة التي يتجلّى فيها هذا الأمر، وقمم هذه النهضة، حيث يلزم على المسلمين فيه حفظ حرمة الله تعالى، والسعي لرفع عزة الحقّ عالياً، والتقوّي بقوّته، وأخذ المدد والعون منه، والتخلّق بالأخلاق الإلهية، حتى لا يصيروا موضعاً لظلم الظالمين وبطشهم، فالحج هجرة إلى الله تعالى، يقصده الناس لأداء مناسكه من مختلف نقاط الدنيا.

آية الله جوادي آملي

مجلة ميقات الحج

 السنة الثانية عشر- العدد الرابع و العشرون- 1426ه-.

1– آل عمران: 97.

2– وسائل الشيعة 8: 279.

3– المصدر نفسه 8: 103.

4– البقرة: 128.

5– وسائل الشيعة 8: 160 ـ 171.

6– المصدر نفسه.

7– المصدر نفسه.

8– المصدر نفسه 9: 419.

9– الحجّ: 27.

10– الأنبياء 67.

11– الزخرف: 26.

12– الأنبياء: 68.

13– الأنعام: 79.

14– الصافات: 84.

15– آل عمران: 68.

16– بحار الأنوار 51: 59.

17– التغابن: 9.

18– الواقعة: 49 ـ 50.

19– مريم: 95.

20– الذاريات: 50.

21– وسائل الشيعة 8: 5.

22– المصدر نفسه 9: 37.

23– المصدر نفسه 8: 55.

قراءة 1824 مرة