كل العبادات هي تركيز على ارتباط الإنسان بالمثل الأعلى المطلق الحق سبحانه، ومن ثم فهي توجّه الإنسان نحو حركة تكاملية غير محدودة، وتزيل من طريقه الآلهة المتعملقة التي تُحدّ مسيره أو تقطع عليه الطريق.
غير أن فريضة الحج فيها من المنهج ما يشكّل مدرسة للتكريم وبالتالي إلى الحركة الحضارية، ومن ثم إلى التأدّب بآداب الاختلاف التي لا يُلقّاها الاّ ذو إحساس بالكرامة وبالشعور الحضاري. ونقف عند بعض معطيات الحج في صياغة الجماعة المتحضرة والانسان المتحضّر.
1 ـ الارتباط بالمطلق يحتاج إلى تعبير عملي وسلوك حسّي يعمق الارتباط بالمثل الأعلى الحق ويوجهه الوجهة الصحيحة المنسجمة مع سائر احتياجات الفرد والمجموعة البشرية.
العبادات عامة والحج، بما فيه من مناسك حسيّة، ينهض بدور هام في توثيق الارتباط بالمطلق الحق.
فالحج وفود على الله، ومناسكه تلبية لنداء الله وطواف حول بيت الله وسعي ووقوف ورمي وتضحية في سبيل الله. ومناسكه تلبية لنداء الله. وتوثيق الارتباط بالله له الاثر الكبير في دفع المسيرة نحو الكمال المطلق وإزالة كل العوائق التي تقف بوجه المسيرة.
2 ـ العمل الفردي لا يمكن أن يتحول إلى عمل اجتماعي ذي آثار على المسيرة البشرية إلا إذا تعدّى حدود عامله، أي أن يتجاوز الذات، ويدخل في حياة الآخرين.
والعبادات تربي الإنسان على تجاوز الذات، ومناسك الحج فيها العطاء التربوي الكثير في هذا المجال. القدوم إلى بيت الله الحرام من كل فج عميق، وعلى كل ضامر، والتضحية بالمال وبذل ألوان الجهود كلها تنهض بدور تربية الإنسان على الإيثار وكسر الأنانية.
الأحاديث الشريفة التي تحذر من الرياء في أداء فريضة الحج ومناسكه، تؤكد على حقيقة تجاوز الذات في حركة الإنسان ونشاطه، وتربي الإنسان على العمل المساهم في دفع عجلة المسيرة التاريخية نحو كمالها المنشود.
3 ـ ذكرنا دور الشعور بالمسؤولية باعتباره ضمانًا لاستمرار المسيرة وتكاملها. والشعور بالمسؤولية هو الإحساس الداخلي الدافع للإنسان على الالتزام بالمسيرة وضبط النفس على مواصلة الطريق، وفي مناسك الحج تعليمات كثيرة تربي هذا الإحساس بالمسؤولية، وتمرّن الإنسان على الانضباط الدقيق أمام المطلق الحق ورقابته الغيبية. وتتجلى هذه التعاليم بوضوح فيما يجب ويستحب ويكره ويحرم على الإنسان المحرم في موسم الحج، كما تتجلّى في الآية التي تتحدث هن عطاء الهدي، حيث تنفي أن يكون الهدي تكريسًا لذات الله، كما تفعل الآلهة المتفرعنة في أوامرها لأتباعها، وتؤكد أن الهدف من الهدي هو «التقوى»، أو الانضباط على خط المسيرة.
(لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ).
4 ـ الحج تربية للامة على (الحركة) في طريق المطلق الحق. ولعل فريضة الحج أكثر فرائض الله احتفالا بالحركة من طواف وسعي وإفاضة. وهذه الحركة المستمرة إشعار للموحدين على أن الارتباط بالمطلق الحق لا ينفك عن الحركة على سبيله، وتأكيد على أن الخمود والجمود يعني الانحراف عن الطريق الذي أراده الله للامة المسلمة.
5 ـ حركة المسلمين في إطار مناسك الحج تتميز بالجماعية والتنسيق وزوال الفوارق. وهي تجسِّد المسيرة الصحيحة نحو الإله الواحد الأحد. فهي مسيرة جماعية تتجه فيها المجموعة البشرية نحو هدفها التكاملي، وليست مسيرة هذا الفرد أو ذاك. كما أنها ليست بالمسيرة المبعثرة المتفرقة المتشعبة، بل منسّقة تتجه في كل منعطفات التاريخ اتجاهًا منسقًا موحدًا كما أن المسيرة تتميز بزوال الفوارق الطبقية العنصرية.
جميع هذه المظاهر اللازمة للمسيرة البشرية على طريق الله نشهد مظاهرها في حركة الحجاج المجردين من كل مظاهر الزينة والتفاخر والموحّدين في الملبس والمتّجهين بنسق واحد في حركة الطواف والافاضة.
6 ـ التحرك الواعي على طريق المسيرة. فالوعي والتفتح أو «استماع القول واتباع أحسنه» بالتعبير القرآني من صفات المسيرة المتجنبة للطاغوت، والمنيبة إلى الله.
هذه الصفة تتجسد في حركة الحجاج من خلال تأكيد الإسلام على عدم الوقوف عند الشكل الظاهر من الشعائر، بل تجاوز الظاهر للتوغل إلى عمق الشعائر.
الجهل في تاريخ البشرية ينطلق من قاعدة واحدة على مرّ العصور وهي عدم التوغل في مظاهر الحياة المشهودة وعدم التعمّق في كنهها. وعلى العكس من ذلك العلم، فهو ينطلق دومًا من ذهن ألف الانتقال من المظاهر إلى الأعماق. كم من إنسان شاهد على مر التاريخ سقوط تفاحة من الشجرة وهو غير مبال بهذا السقوط المألوف العادي. لكن الذهن المتفتح انتقل من هذا السقوط العادي إلى اكتشاف قانون الجاذبية.
مشكلة الجهل هذه قائمة حتى في المجتمعات المتطورة في العلوم المادية اليوم، وتتمثل في افتتان الإنسان الغربي بما اكتشفته من معادلات وقوانين، فحوّلها إلى مطلق لا يرى وراءها المطلق الحقيقي، «وأصبح يقدم للعلوم المادية فروض الطاعة والولاء، ويرفض من أجلها كل القيم والحقائق التي لا يمكن قياسها بالأمتار أو رؤيتها بالمجهر».
7 ـ التحرك المثمر. وقد ذكرنا أن الحركة على طريق المطلق الحق مقرونة دومًا بالعطاء وعطاء الحج نموذج مصغّر لذلك.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن الإسلام ترك للامة المتحركة، بوعيها على متطلباتها الحياتية، أن تشخص المنافع التي تجنيها من موسم الحج، ولذلك جاءت كلمة (منافع) الحج في الآية بصيغة النكرة، لتؤكّد على مطلق المنافع التي تراها الأمة الواعية السائرة على خط الله مقومة لوجودها.
(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ).
جدير بالذكر أن هذه المنافع لا تتحقق إلا عندما تكون هناك «أمة»، وتكون هناك «حركة» على طريق الله، عند ذاك تكون الحركة مقرونة بالعطاء ومقرونة بالمنافع بما في ذلك حركة الامة في موسم الحج. أما عندما تطوف بالبيت مجموعة بشرية راكدة هامدة كالذي كان يفعله الجاهليون قبل الإسلام، فلات حين عطاء، ولاتَ حينَ منافع. لأن هذه المجموعة البشرية لا تستطيع أن تفهم سبلَ الاتجاه نحو العطاء: ) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(. )إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(.
8 ـ الهدم والبناء عمليتان ترافقان كل حركة اجتماعية تكاملية.
حينما تكون الحركة على طريق الله، يتوازن الهدم والبناء فيها بشكل ينسجم وطبيعة واقع التحرك البشري، دونما إفراط في الهدم ووقوع في الفوضوية، ودونما إفراط في الاتجاه نحو البناء وإهمال عملية الهدم والوقوع بالتالي في عملية المراوحة خلف الحواجز والسدود.
عمليات بناء الإنسان المتحرك والمجموعة البشرية المتحركة على خط الله استخلصناها في معطيات الحج المذكورة آنفًا، وهنا نشير إلى اقتران هذه العمليات بالهدم اللازم لاستمرار الحركة.
رمي الجمار الكبرى والوسطى والصغرى مرات في مناسك الحج يرمز إلى جانب هام من جوانب حركة الإنسان المتمثل في صراعه لكل العوامل المضادة التي تقف في طريق حركته.
الجمار ترمز إلى الشيطان كما جاء في الروايات الإسلامية، والشيطان يمثل كل عوامل صد الأمة عن مسيرتها نحو الله. ورمي هذه الجمار يرمز إلى مقارعة هذه العوامل المضادة بالقوة وعلى الحاج أن يتجهز مسبقًا بسلاح الرمي من المشعر الحرام، فيلتقط منه حصياته، ويتجه إلى منى للرمي.
انطواء مسيرة الحج على تقديم الأضحية في سبيل الله يشعر أيضا بأن الروح السلمية الوادعة التي يحملها الحاج حين الإحرام حتى بالنسبة للبهائم وحشائش الأرض، ينبغي أن تقترن بروح التضحية لأن المسيرة التكاملية نحو الله تتطلب ذلك.
9 ـ المسيرة المتصلة، القرآن الكريم يفيض في شرح قصص الأنبياء والأمم السابقة ليخلص منها إلى نتيجة واحدة هي إن السنن الحاكمة على مسيرة التوحيد واحدة على مر التاريخ وهكذا السنن الحاكمة على خط الشرك واحدة أيضا لا تتغير.
هذه النتيجة توضح للامة المسلمة أنها تسير على خط عريق تمتد جذوره الى أعماق التاريخ سار عليه كل الأنبياء والصالحون في التاريخ وهو خط له سننه الخاصة وقوانينه التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا يخفي مالهذا الاستشعار من عطاء ثر يؤصّل إيمان الأمة المسلمة بطريقها ويفسح لها فرصة الاستفادة من تجارب الرهط الكريم الذي سبقها في موكب الإيمان.
الحج ينهض بدورهام في التأكيد الحسي على هذا الاتصال. فالأمة المسلمة تطوف حول نفس البيت الذي وضع قواعده إبراهيم وتسعى وتهرول على نفس طريق المرأة الصالحة هاجر، وتضحي استشعارًا لتضحية إسماعيل. وبذلك تنشد الامة المسلمة بمسيرة التوحيد التاريخية العريقة بكل ما تتطلبه المسيرة من صبر ومعاناة وتضحيات واستقامة ومواصلة.