الحج رحلة الروح والبدن، وهجرة الانسان الى الله، ووفادته عليه.
وهو هجر للاهل، والمال، والملذّات، واحتمال للمتاعب والمشاقّ، والعناء.. حباً لله وشوقاً اليه، واستجابة لندائه:
(وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فج عميق) (الحج/ 27).
والحج عبادة تشترك في أدائها عناصر متعددة، يشترك فيها الجسم والمال، وتساهم فيها النفس والمشاعر، لذا كان الحج عبادة مالية بدنية، يتعبد بها الانسان عن طريق بذل المال، والجهد، واحتمال المشاقّ والمتاعب، قربة الى الله سبحانه، واظهاراً للعبودية الخالصة له، وتأكيداً للتحرر من كلّ قوة عداه سبحانه.
وهدف الحج هذا هو هدف كلّ عبادة في الاسلام، الخلوص الى الله سبحانه، وقطع النظر عما سواه في هذا الوجود، واتخاذ المعبود غاية في نشاط الانسان وتوجهه، ليمتلئ وجدان المتعبد بالحقيقة الكبرى فيغدو طهراً متجرداً من كلّ شر ورذيلة.
ومنذ أن أطلق القرآن نداء الحج، انطلق الحجيج يلبي، ويستجيب للنداء، ويردد هتاف الحب، والاخلاص، والوفاء لله سبحانه: (لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).
وهكذا كان نداء محمد (ص) الذي علمه أمته، نداء تطلقه القلوب المستجيبة لنداء الله، لتعلن عن ولائها، وصدق توجهها، متحدية المتاعب والمشاق، حباً لله، وشوقاً الى ارتياد أرض المقدسات، ومواطن التعبير عن الاخلاص لله.
فالملبي يردد ضمن جمع الحجيج ـ لبيك اللهم لبيك ـ استجبت اللهمّ لندائك وأمرك، وحضرت بين يدي رحمتك، حباً لك واخلاصاً، فأنت الواحد الذي ملك مني نفسي، ومشاعري، وحياتي، فلا شيء غيرك يمكن أن يحول بيني، وبين الوصول اليك، انك شرّفتني، وأحببتني، ودعوتني للحضور بساحة رحمتك، وكيف لا أستجيب لك؟
أليس الخلق والملك لك...؟
ألستَ صاحب النعم الذي يستحق الشكر والحمد..؟
ألستُ المدين لك.. الذي يلهج بحمدك والثناء عليك والتعظيم لك..؟
ها أنا قد حضرت بين يديك.. وقد تركت كلّ ما خوّلتني ورائي.. من الأهل، والمال، والجاه، والمتع واللذات، سعياً لرضاك، ووفوداً عليك، وشوقاً اليك.. فتقبلني اللهمّ بأحسن قبولك، وأجب دعائي، وأكرم وفادتي عليك، وأجر فراري من الذنب اليك.