العلامة السيد محمد حسين فضل الله
◄في البداية ينطلق الإنسان في النداء الذي يؤكد عبوديته لربّه فكلمة التلبية "لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك" هي كلمة التوحيد الحركي الذي ينطلق في عقل الإنسان وفي وجدانه من أجل أن يحرك الإنسان في كلّ نداءات الله سواء كانت النداءات التي تخاطب إنسانيته في قوله تعالى: (يا أيهّا الناس) والتي تخاطب إيمانه في قوله تعالى (يا أيّها الذين آمنوا) حيث يقف الإنسان بين يدي ربّه عارياً من كلّ شكليات الواقع الفردي والإجتماعي ليؤكد أنه لن يستجيب له استجابة واحدة ولكن إجابةً بعد إجابةٍ، مما يوحي بأن الإجابة تظلّ تتحرك في خط الحياة، فالإجابة الأولى والثانية والثالثة هي أن يكون كله في حركة مع الله، ليتحول الإنسان إلى تجسيد لاستجابته لله، من خلال دعوته سبحانه وتعالى للناس (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال/ 24).
ثم إن قصة الطواف ليست مادية بحيث تجعل الإنسان يطوف حول هذه الأحجار التي قدّسها الله وعظّمها ولا عظمة لها في ذاتها إلاّ من خلال تعظيم الله لها، فنحن نعظّمها لا من خلال أنّها أحجار مقدسة، ولكننا نقدسها من خلال ما ترمز له من أنه بيت الله، وبيت الله يبقى رغم تهدم الحجارة وتفتتها، فإذا سقطت أحجار جديدة تأتي هندسة جديدة ويبقى بيت الله.
- رمز الطّواف:
رمزياً ليس الطواف عملية مادية تحاول أن تحصي فيها خطواتك، ولكنها رمزٌ إلى أن من يطوف في بيت الله، وحول الكعبة لابدّ أن يكون طوافه في كلّ ما يطوف به من مواقع، ومن بيوت أن يكون طوافه لله في مواقع طاعته وفي مواقع جهاده وفي مواقع حركته في الحياة، سواء في الأعمال والأموال أو العلاقات، يطوف بالبيت فلا يمكن بعد ذلك. إذا أخلص أن يطوف في بيوت الظالمين، وفي بيوت الكافرين والمستكبرين، لأن الله حدّد له مواقع طوافه، فالطواف رمز يجعل كلّ طوافك في الحياة وفي أي موقع ودائرة طوافاً لله تعالى.
- رمز السعي:
عندما تسعى ليكن سعيك رمزاً لكل سعي في الحياة بحيث تسعى وليس هناك ما يلفتك، ليس هناك من مناظر جميلة تجتذبك.. وليس هناك أشياء مميزة، ولكنك تسعى لأن الله أراد لك أن تسعى والسعي رمز لكل سعيك في الحياة، أن تسعى في كلّ مواقع قربات الله وفي كلّ مواقع الإمتثال لأوامر الله.
وهكذا نتأمل في "عرفات" ونتأمل في "المزدلفة" ونتأمل في "منى" ليعطينا ذلك كله أن يكون التأمل هو طابع شخصيتك، فلا تنطلق في أي مشروع وفي أي عمل إلاّ بعد أن تتأمله أولاً، وثانياً، وثالثاً لتوازن بين ما تتحرك فيه وما تنطلق منه، فإذا كنت تنطلق من الله ومن الإسلام شريعةً ومن محمّد (ص) نبياً ومن القرآن كتاباً، فلابدّ أن تحرك كلّ ذلك في كلّ مشروع وفي كلّ عمل وفي كلّ علاقة وفي كلّ موقف وفي كلّ موقع.
وهكذا أن ترجم شيطانك في عقلك عندما يتحرك شيطان عقلك بفكر الشر وأن ترجم شيطانك في قلبك عندما تنطلق خفقات قلبك في عاطفة الشر، وأن ترجم شيطانك في حركتك عندما تتحرك حياتك في اتجاه الشر.
هكذا تحجّ إلى الله بأن تبدأ الحج بعد أن ينتهي الحج، لتحجّ إلى الله في كلّ ساحات الحياة، فحياتنا فيها الكثير من مواقع الطواف وفيها الكثير من مواقع السعي، وفيها الكثير من مواقع الصراع مع الشيطان، وفيها الكثير من عرفات، ومن المشعر الحرام، ومن منى، إنّها تتوسّع حتى تشمل الحياة.
وهكذا، تبقى التلبية لتؤكد نفسها في كلّ واقعنا الروحي والفكري والحركي فالله أراد لنا أن نصلي، وأن نصوم وأن نحج فنحن نلبّيه في ذلك، والله أراد لنا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وأن تكون صرختنا "لبّيك اللّهمّ لبّيك" منطلقةً من حركة الصراع في الداخل، والله أرادنا أن نجاهد الكفار والمنافقين والمستكبرين فعلينا أن نقول "لبّيك اللّهمّ لبّيك".►