العلّامة السيِّد محمّد حسين فضل الله
◄إنّ قيمة البيت الحرام، هي في أنّ الإنسان الذي بناه كان يعيش كلّ معنى الروحانية التي أفاضها على البيت، حتى يعيش هذا البيت في كلّ مداه كلّ هذه الروحانية التي أراد الله للناس أن يغرفوا منها، وأن يعيشوها بكلّ معانيها.
وهكذا رأينا كيف أنّ الله سبحانه وتعالى، بعد أن بنى إبراهيم البيت، أراد لهذا البيت أن يكون البيت العالمي. قال سبحانه: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) (آل عمران/ 96). يُقال إنّه كانت هناك بيوت للعبادة، لكن ربّما كان المقصود بقوله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) أنّه البيت العالمي. يعني كانت هناك مساجد صغيرة، كما يوجد عندنا مسجد محلّة أو مسجد قبيلة أو مسجد بلد، لكن هذا المسجد ـ أي البيت الحرام ـ هو المسجد العالمي الذي أراد الله للناس من الشرق والغرب أن يأتوا إليه. (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) وبكّة هي لغة في مكة (مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)، فالله أنزل فيه البركة، وأراد للناس أن يهتدوا به (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ) (آل عمران/ 97) ممّا حشده الله سبحانه وتعالى فيه من آياته (مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران/ 97).
(وَمَنْ كَفَرَ) (آل عمران/ 97) مفسّرة ومَن لم يحجّ، وليس المراد الكفر العقيدي، بناءً على هذا التفسير، بل الكفر العملي، وأنّ الإنسان الذي يؤمن بالله ولا يعمل بما كلّفه الله هو بمنزلة الكافر، لأنّ النتيجة واحدة، ذلك أنّ الكافر لا يعمل لأنّه لا يؤمن، وهذا مع أنّه يؤمن لكنّه لا يعمل، فالنتيجة في الخطّ العملي، هو أنّه كافر عملاً، وإن لم يكن كافراً عقيدةً (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران/ 97).
وهكذا أراد الله من إبراهيم (ع) أن يبدأ النداء إلى الحجّ: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) (الحجّ/ 27-28)، باعتبار أنّ الله سبحانه وتعالى يريد للناس أن يجعلوا من الحجّ ساحة منفعة لهم، فقد تكون المنفعة في الجوانب العبادية، وهي الأساس، وقد تكون في الجوانب الثقافية التي يلتقون فيها ليعطي كلّ واحد منهم ثقافته للآخر، أو في الجوانب الاقتصادية أو السياسية أو ما إلى ذلك، حيث إنّه المجمع العالمي الذي يلتقي فيه الناس من الشرق والغرب ليتعارفوا، ولينتفعوا من خلال هذا التعارف، وهذا الترابط الذي يمكن أن يؤدِّي إلى نتائج كبيرة على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والروحي والعبادي.
خلاصة أعمال الحجّ
وهكذا يحدّثنا الله سبحانه وتعالى في آياته عن أعمال الحجّ، وعمّا ينبغي للناس أن ينطلقوا به. ويؤكّد سبحانه وتعالى في مسألة الحجّ نقطة أساسية، هي الخلاصة لكلّ أعمال الحجّ، وهي ذكر الله سبحانه وتعالى، فإنّ الله سبحانه وتعالى أراد للناس أن يخرجوا من الحج بنقطتين؛ إحداهما نتيجة للأُخرى «ذكر الله، وتقوى الله»، لاحظوا قوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ) (البقرة/ 197). والرفث كناية عن العلاقة الجنسية (وَلَا فُسُوقَ) (البقرة/ 197) والمراد كلّ فسق، سواء بسبّنا بعضنا البعض أو بغير ذلك (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة/ 197) يعني الجدال طبعاً في غير الحقّ، الجدال الذي يتحرّك ليثير العداوة والبغضاء والتعقيدات وما إلى ذلك، لأنّ الله أراد للحجّ أن يكون فرصة سلام، لا أن يكون مناسبة يمكن أن تثير البغضاء بين الناس (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) (البقرة/ 197) حتى لا يشعر الإنسان أنّ هناك خيراً يفعله يمكن أن يضيع عند الله (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) (آل عمران/ 195).
(وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة/ 197)، ففي الحجّ، كما في غيره، يريد الله للإنسان أن يجعل زاده في الحياة الدُّنيا الذي يحمله إلى الآخرة، والذي يرتفع بمكانته عند الله، هو التقوى، لأنّها الزاد الذي يحقّق لك السعادة في الدُّنيا والآخرة، والله يخاطبنا بعد أن يبيّن لنا حقيقة التقوى وقيمتها بقوله: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ) (البقرة/ 197)، وهذه كناية تعني يا أُولي العقول، لأنّ عقل الإنسان يقوده إلى التقوى، ويقوده إلى ما فيه نجاته ومصلحته.
ثمّ يقول: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) (البقرة/ 198)، فلا مانع من أن تنتفع مادّياً هناك بما لا يشغلك عن حجّك وعن عبادتك (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) (البقرة/ 198) أن تذكر الله عند المشعر الحرام، بحيث يكون وجودك هناك مملوءاً بذكر الله، وأن تذكر الله في قلبك، وأن تذكر الله في إحساسك، وأن تذكر الله في عقلك، وأن تذكر الله بلسانك (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) (البقرة/ 198)، يعني اذكروه شاكرين له على أساس نِعمة الهداية (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ) (الأعراف/ 43)، بحيث يشعر الإنسان بأنّ نِعمة الهداية هي في الإيمان وفي توحيد الله، وهي النِّعمة الكبرى التي لابدّ من أن يذكر الإنسان ربَّه عندما يتذكَّره بالشُّكر (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (البقرة/ 198).
(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) (البقرة/ 199)، ولا تنشغلوا في الحديث الذي يتعلّق بأُموركم الشخصية أو بلهوكم وبعبثكم، بل انطلقوا من حيث أفاض الناس، في مسيرة ربّانية تتّجه بكم إلى ما يريد الله لكم أن تصلوا إليه من تقواه (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) (البقرة/ 199)، ولتكن إفاضتكم مملوءةً بالاستغفار (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ) (البقرة/ 199-200) وانتهيتم من ذلك كلّه (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) (البقرة/ 200). ويبقى ذكر الله هو الأساس في كلّ حركة من حركات الحجّ، تذكره وأنت تطوف، وتذكره وأنت تسعى، وتذكره وأنت تقف في عرفات، وتذكره وأنت تفيض من عرفات، وتذكره وأنت تقف في المشعر، وتذكره وأنت تقف في منى، بل تذكره وأنت ترجم الشيطان. وفي المحصِّلة، أن يكون ذكر الله هو الخطّ الحركي الذي تتحرّك فيه (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ) وجلستم (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ)، باعتبار العلاقة التي تشدّ الإنسان إلى أبيه، بحيث تجعله يتذكّره دائماً (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)، لأنّ علاقتكم بالله هي أعظم من علاقتكم بآبائكم.
دعاء الدُّنيا والآخرة
ثمّ يحدّثنا الله تعالى عن الخطّ الذي عندما نذكره فيه، فإنّنا ندعوه، لأنّنا إذا ذكرنا الله، شعرنا بالحاجة إليه، وشعرنا بالفقر إليه. فكيف تدعو الله سبحانه وتعالى؟ وما هو مضمون الدُّعاء؟ إنّ الله يقسّم الناس على حسب عمق الإيمان في نفوسهم: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (البقرة/ 200)، كمن يقول: اللّهُمّ اعطني أولاداً، اعطني بيتاً، اعطني مالاً، اعطني صحّة، أمّا أن تقول: اللّهُمّ اعطني جنّة، اعطني رضواناً، فهذا أمرٌ ثانوي لا يهمّ البعض، بحيث إنّه قد لا يفكّر في الآخرة كلّيةً، لأنّه مستغرق في الدُّنيا، فقد تشغله دنياه حتى وهو بين يدي الله الذي قال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر/ 60)، فحتى وهو ماثلٌ بين يدي الله، يعيش الاستغراق في الدُّنيا، بحيث لا يفكّر أن يطلب من الله أن يرضى عنه، وأن يدخله جنّته وما إلى ذلك (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) (البقرة/ 200-201) فنحن نعيش في الدُّنيا، ولنا حاجاتنا، ولنا أُمورنا، ولنا قضايانا (وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (البقرة/ 201-202).
وعلى ضوء هذا، فعلى الإنسان عندما يدعوه الله، أن يدعو وهو منفتح عليه، بحيث يضع بين يدي الله دنياه وآخرته، وليطلب من الله أن يعطيه في الدُّنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وأن يقيه عذاب النار، ليشهد الله على قلبه أنّه لم يستغرق في الدنيا بحيث تشغله عن آخرته، ولم يفهم الآخرة على أنّها ابتعاد عن الدُّنيا، فللدُّنيا مطالبها، وللآخرة مطالبها.►
المصدر: كتاب الندوة/ ج4