د. محمد أمين الاسماعيلي
المرأة المسلمة المكرمة في القرآن الكريم السنة، وبهما داخل المجتمع الإسلامي الأوّل، وعبر المجتمعات الإسلامية المختلفة، تعيش اليوم أزمة حضارية وسلوكية تبتعد بها عن روح الإسلام ومقوماته الثقافية والحضارية، إنها تعيش أزمة في نفسها، وفي فكرها، وفي تصورها، وفي سلوكها وفي واقعها ويدرك كذلك أن شروطاً موضوعية أخرى ساهمت في حياة العيش الذي تحياه في بلادها وبين قومها، غريبة عن قيمها الذاتية التي هي قوام حياة العزة والأنفة والكبرياء الإيجابية في أنوثتها وقاعدتها الدينية الإسلامية الإيجابية التي تعطي الوجود الإنساني للمرأة المسلمة حقه في الحياة الكريمة المتميزة عن المملكة البهيمية. فهي منذ بدأت تبتعد عن القيم الإسلامية وجدت نفسها في جحيم من الضياع داخل مجتمعها. إنّ المرأة المسلمة المعاصرة أخذت تحمل تصوراً للكون وللوجود وللحياة يحدث شرخاً واسعاً في بنيتها النفسية والفكرية: فهي تعيش واقعاً إسلامياً في الجملة يؤثر على نمط تفكيرها بمقوماته، وعاداته، وتقاليده، وأعرافه، وسمته الخاصة، وهي في ذات الحين تعيش تأثير الفكر الغربي الضاغط وتصوره الخاص للكون والحياة والإنسان. إنّ العيش والتفكير في التصور الإسلامي فرصة قل نظيرها في الأديان السماوية والوضعية الفلسفية وغيرها إنها تمنح المرأة الفرصة التي تثبت بها ذاتها وجدارتها وتبلغ حقوقها كاملة غير منقوصة، تهبها حقوقاً ليس لها مجافاة مع طبيعتها وكينونتها وتوقعها للحياة الكريمة الإنسانية، بينما القوة الضاغطة الغربية تسعى إلى التصادم الحضاري الإنساني بكل القيم التي تطمح المرأة إليها بفطرتها وتوقعها إلى العزة الكاملة. إنّ الأفكار الغربية تصادم كل المقومات وإن كانت هناك جوانب يقال إنّها تلتقي مع القيم الإسلامية بالقوة والغلبة وليس بغيرهما. إنّ الشرخ الكبير المحدث بين الإتجاهين الإسلامي والغربي في حق المرأة المسلمة قد جزأ الذات الإنسانية وجعلها في مهب الريح، حين ينعكس ذلك الإنفصام على البنية النفسية والقيمية للعلاقة الجدلية بينهما. فالمرأة المسلمة المعاصرة لم يبق لها أن أدركت على مستوى الشعور النفسي ذلك الشرخ في ذاتها وفي كينونتها وواقعها المعيش، ولم يبق لها أن أدركت إشكالية ذلك الزواج في المشروع بين حضارتين قرر علماء كل واحدة منهما التصادم وليس التعايش أو على الأقل قررت الحضارة الغربية قاعدة التصادم الحضاري مع الحضارة والقيم الإسلامية دون سواهما ومن جانب القيم مررت الحضارة وأسلوب حياتها الغربية والمحشوة بالدوافع الأيديولوجية والتي تبنتها بعض الحركات النسائية المدعومة من رواد الحركة الغربية وحصرت المشكلة بين الرجل والمرأة بل في أنّ أزمة المرأة المسلمة قائمة على محورين أساسيين هما: 1- القضايا في: أ- القمع والتحرش الجنسي. ب- عدم المساواة مع الرجل. ج- عدم إتاحة المساواة في الفرص في العمل بين الرجل والمرأة. د- حرية المرأة المطلقة كما يتطلب النظام الرأسمالي لتتاح الفرصة للإستغلال بكل أنواعه للمرأة في المعامل وغيرها. 2- التطلع للحرية فيما يلي: أ- القضاء على الأسرة. ب- مشاعية العلاقات الجنسية. ج- القضاء على نظام الوراثة أو جعله يحقق أطماع المرأة دون الإلتفات إلى حق غيرها. هذه هي العناصر وغيرها في المحورين تبين الهدف من القضايا المشار إليها والتي تهدف إلى خلق تصادم لا يقود أبداً إلى وئام، ويدفع بالمجتمع إلى الضياع وإلى وجود أطفال بدون أمهات أو آباء، ويكون بذلك مجتمعاً مفكك الأوصال لا يجمع بين أفراده جامع يسير دون هوادة نحو المجهول بعيداً عن الأخلاق والقيم الرحيمة. إنسان الآلة لا يشعر بما يشعر به الكائن البشري بل رغبات تحقق بعيداً عن هدف قيمي يضمن حياة رحيمة سليمة لكل الناس، وإنما تكوين مجتمع تتحكم فيه وسائل إعلام يحركها أناس بدون أي شعور إنساني هدفه تحقيق المصالح الآنية الدنيوية دون حساب لأي هدف آخر مهما كان نبيل. إنّ التصادم الحضاري الغربي الذي يقود العالم اليوم يسير في مخطط يسعى من ورائه إلى جعل المرأة المسلمة لا تعيش في واقع قيمها الدينية إلا من خلال ثقلها الجسمي وأزماتها المعنوية والمادية لا غير. وفي معظم البلاد الإسلامية تهيأ واقع مجتمعي مفروض ويطبق بناء مسالمة واقعية تريد تحقيق نظرية تقليد المغلوب للغالب كما قرر عبد الرحمن ابن خلدون في مقدمته وبدأ التصادم يميز كيان الأسرة المسلمة بتهيئ الفرص للفتك بالمرأة وربما بأشد مما عليه المجتمع الغربي الفارض للتصادم الحضاري فيمارس على المرأة شتى أنواع الضغوط والإغراءات المختلفة والتصورات الخاطئة لمنح المرأة وتجريدها من خصوصياتها، وتصوير ما يجري في الغرب على أنّ المنجي لها مما هي فيه مجتمعها برغم النتائج المفلسة التي شهد عقلاء الغرب على أنها تقود مجتمعه إلى الضياع لا محالة: (يجب أن يولى المربون اهتماماً شديداً للخصائص العضوية والعقلية في الذكر والأنثى. وكذلك لوظائفها الطبيعية، فهناك اختلافات بين الجنسين غير قابلة للنقص، ولذلك فلا مناص من أن نحسب حساب هذه الإختلافات ونحن نسعى لبناء عالم متمدن)[1]. فإذا كان الحال كذلك عند عقلاء الغرب فما هي الاجراءات التي اتخذها عقلاء بعض البلدان الإسلامية، غير السكوت في الغالب أو الحديث في احتشام كبير؟ هل هناك اجراءات تتخذ قصد حماية كيان المرأة المسلمة والحفاظ على مميزات الشخصية الإنسانية لها داخل المجتمع الإسلامي وفي شتى المجالات الحياتية؟ ثمّ إن نظرية التصادم الحضاري المفروضة علينا – لظروف وملابسات – قد وجدت كثيراً من الجمود يحيط بالمجتمع الإسلامي في غالبية بلدان الإسلام، دون أن يجد الماء الراكد من يحركه. فنحن إذا عرفنا في الماضي شموخاً لا يقاس، فنحن اليوم نفتقد ذلك الماضي، ونحن إليه كرمز حضاري لا كإطار زماني، بينما الشباب الغربي يشعر بالفخر في حاضره رغم – ما نقول نحن الذين من الله عليهم ببعض التعقل والالتزام – فهل نعمل بجد من أجل توعية المرأة بواقعها في بلاد الإسلام؟ إنّ التصادم الحضاري يدفع بها إلى مرارة رفض الواقع في بلاد الإسلام، فهي تتمرد عليه، وتثور على قيمه جملة وتفصيلاً، ولو فعلت ذلك بوعي لكان خيراً في قليل من الأشياء ولكن تتمرد وتثور من غير وعي مما يكرس الوضع التصادمي وتجعل من نفسها أداة من أدوات اللعب التي يحركها عدو أمتها ويقود بها حركة نشطة يثبت بها ويركز أهدافه المنحرفة التي تجرف المجتمع الإسلامي في عميق سباته وترسخ عملية الإفساد بكل أشكاله. ومن ثمّ فإن عمل الدعاة المصلحين لا يستطيع عمل أي شيء لإنقاذ الوضع المتأزم الذي تعيشه المرأة المسلمة في كثير من البلاد الإسلامية. إنّها تعيش أزمة من واقعها اقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً، وعقدياً دينياً، وحضارياً... فلا تلبث أن تصير هي بنفسها أزمة أخرى. فيضيع منها أي توازن من شأنه أن يجعلها قادرة على تحديد واقعها بوضوح ودقة. إنّ كثير من الدراسات تحاول تفسير أزمة المرأة المعاصرة بأزمة الواقع، بل بصفة أدق بالواقع الإقتصادي المتأزم، وترهين فكاك أزمتها بفكاك أزمته. إنّ مثل هذه التفسيرات لا تزيد على وصف جزء من الواقع بأنّه فاسد، تفهم المرأة المسلمة أن فساده خارج إرادتها، فيتحول الأمر إلى تبريرات تصب أخيراً في تكريس أزمتها بانتظار انفراج أزمة الواقع الإقتصادي بالمفتاح السحري.[2] إذا كان الواقع الاقتصادي في أزمة، والواقع الاجتماعي في أزمة فهل هذا من الأسباب الكفيلة بتخلي المرأة المسلمة المعاصرة عن وعيها كلية؟ ليس ذلك معقولاً ولا مقبولاً ولا مبرراً لاستسلام المرأة أمام هذه الأزمات وتصبح هي نفسها أزمة حقيقية، فهذا لا يبرر ضعفها وعجزها بل ينبغي أن يكون حافزاً قوياً وليس حافزاً ضعيفاً تقوم بوعي إلى الوقوف في وجه نظرية التصادم الحضاري من خلال عملها على تغيير الواقع المحلي تغييراً جذرياً لا أن تجعل من نفسها أداة لتكريسه وعنصراً من عناصر المذلة الحضارية التي يسعى الغرب إلى دفعها للوقوع فيها دون شفقة. لأنّه هيئها إلى الإستسلام وقبول موت الرحمة التي يصورها كآخر الحلول الممكنة وتسعد المرأة برمي كل مسؤولياتها على عاتق الواقع المتردي والمتأزم. وتنتظر الفرج من الله الذي تحرك ساكناً إلى جهة رحمته بتغير ما بنفسها حتى يغير الله ما بداخلها – إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. إنّ وضعية المرأة المسلمة المعاصرة في نظرية الصراع الحضاري الغربية والرأسمالية تحتاج إلى وعي كامل بدورها داخل المنظومة الإسلامية أما صانعة للأجيال ينبغي أن تنطلق من أن وضعيتها كإنسانة في منظومة التوحيد الإلهي، هذه الوضعية التي تحدد وجودها النفسي والاجتماعي والسياسي، والإقتصادي، والفكري، هذه القيم هي التي ينبغي أن تكون إطاراً مرجعياً لقياس الحضارات وليس القيم الغربية. ولما كان الإنسان المعاصر يعاني أزمته في ذاته وفي فكره وفيما يحيط به، ولما كانت الآلية الحضارية الغربية تكرس أزمته رغم أنها من صنع يده، فإن حضارة الغرب التصادمية تجد نفسها في موقف صعب لأنها تجافي الفطرة الإنسانية، فلقد أنشئت دون أي معرفة بطبيعة الإنسان الحقيقية، إذ أنها تولدت من خيالات الإكتشافات العلمية وشهوات الناس وأوهامهم ونظرياتهم ورغباتهم وإن سقوط النظام الشيوعي لينذر بسقوط النظام الرأسمالي إن عاجلاً أو آجلاً لما نراه في المجتمعات التي أصبحت تحمل في ثنياها أسباب فناءها. فإذا عرفت المرأة المسلمة المعاصرة أن دوام الأمور ليس على الإطلاق حجة البقاء وإنما مراد الله يتحقق بمشيئته، ومشيئته لها آجال تتحقق فيها. والحسابات الربانية مقرونة بمواعيدها ومربوطة بها، لذا فنحن لا نستعجل الأمور بل علينا الوعي بها. فنحن نحتاج إلى وعي المرأة المسلمة المعاصرة، وعي بواقعها ووعي بمستقبلها بين يدي الله. إنّ المقصود بوعي المرأة بمستقبلها بين يدي الله، هو قيامها بوعي الحضارة التصادمية الحديثة وتأطيرها وعدم الإنتماء إليها. لقد كان الغرب كله يستفيد من حضارة أمة الإسلام، ويرسل بعثات طلابية للأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها من بلاد الإسلام، لكن تعامله معها لم يصل إلى حد الإنتماء إليها، سيكولوجية وفكراً وسلوكاً. فإلى هذا المستوى ينبغي للمرأة المسلمة المعاصرة أن ترتقي حفاظاً على هويتها الدينية الإسلامية. إنّ مكمن الداء، والعقبة الكأداء أمام أي تغيير على أي مستوى هو نظرية التصادم الغربية التي أفلحت الرأسمالية الحديثة في إطلاقها ومواجهة العالم الإسلامي بها، كي تحطمه وتدفع به إلى القنوط وإلى الهاوية والإنتحار. هذه النظرية التصادمية التي من خلالها تنتفي الذات والصفات كماهية والتاريخ كهوية هي التي تكرس سوء التعامل مع الآخر الأعلى حضارياً. لا شكّ أنّ عبدالرحمن ابن خلدون قد فقه فكرة (الأعلى حضارياً) حيث سعى في مقدمته مفسراً سلبيات هذه النظرية: (إنّ النفس أبدا تفتقد من غلبها وانقادت إليه: إما لنظره بالكمال بها وفر عندها من تعظيمه، أو لما لتغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لهما اعتقاداً، فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الإقتداء. أو لما تراه والله أعلم من أن غلب الغالب لهما ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب... ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه، في اتخاذها وأشكالها في جميع أحواله.[3] فتقليد المغلوب للغالب استلاب للهوية، ومنع للقيم، وذهاب للإعتبار. أما إذا كان الغالب يدفع سلاح الصدام الحضاري فذلك معناه نهاية المغلوب بأي وسيلة كانت إذ لا سبيل له للإنعتاق. فإذا كانت المرأة المسلمة المعاصرة تريد أن تحيا في تاريخها وقيمها وقبل كل شيء عقيدتها فإنّها سوف تأمل البقاء أما إذا ارتمت في أحضان اليأس والقنوط فإنّ الذوبان والنهاية هما المآل. ولو كانت المرأة المسلمة تطمح إلى مكانة في العالم الإنساني بدينها فلها في رسول الله (ص) القدوة الحسنة فقد أباح لها (ص) أن تعمل عقلها وتجيل آراءها فيما يعرض لها فتتمثل الواقع بنظائره وتشبهه بأمثاله وترد بعضها إلى بعض في الأحكام، وقد رضي لنا الاجتهاد في حياته والوحي يتنزل عليه من السماء، فكيف لا نقبل ذلك، والعالم من حولنا مشتعل بالنبال والحراب والآراء المضادة لديننا ووجودنا ماذا عسانا نعمل إذا لم نحاذر الواقع ونعمل للمستقبل، والمرأة أما وزوجة وقاعدة أساسية فليس لنا من مصير غير الذي ترضعه فمتى تراها ترضع العزة والمنعة والعقيدة السليمة لأجيال الغد؟ أمّا إذا بقيت المرأة المسلمة المعاصرة تعظم الغرب وكل ما هو غربي، وتعتقد فيه الكمال، وتتوهم أن تقليده عبر الإنتماء إليه تصوّراً وسلوكاً وقيماً هو التحرر والتقدم وهو الحضارة التي تنقذها من الصدام الحضاري والهروب من الجمود والانتماء إلى الحضارة الإسلامية فهي تقع حيث تريد الهروب والنجاة فتسقط في الإستيلاب، حيث لم تبحث عن ذاتها، إلا في ذات الآخر وفي قيمه وهبوطه الأخلاقي ومسخه الإنسانية الداخلية عليه واحتقاره لهم وما هي النتيجة التي حققت؟ لا شكّ أنها فقدت كل شيء وسقطت فريسة في يد الآخر.
إنّ المسؤولية الحضارية تقتضي من المرأة المعاصرة وعى ذاتها ووعي الآخر، وتحديد العلاقة بين الأنا والهو، وبين الأنا والواقع بشكل يضمن للذات تحقيق تلك المسؤولية المتمثلة أساساً في المساهمة وبفاعلية في بناء حضارة إسلامية جديدة على قواعد الماضي الإيجابي، وآمال المستقبل، ولتعلم المرأة المسلمة المعاصرة أنّ المهادنة مع الآخر لن تنفعها فحتى لو هادنته من طرفها فسوف لن يترك لها الفرصة للإنعتاق، في قضية لا مهادنة فيها إنّه صدام الحضارات الرأسمالي بكل ما أوتي من ميكيافلية قاتلة لا تعرف الرحمة، والمرأة المسلمة إذا عادت لوعيها فسوف تصون النفس والعقيدة وترضع الأجيال القادمة العزة والكرامة والأنفة وكلها إسلام.
الهوامش:
[1]- ألكسيس كاريل، الإنسان ذلك المجهول، ص116. [2]- المرأة العربية المعاصرة، عزالدين البوشيخي، ص64، مطبعة مكاتب مكناس، الحزب.
[3]- عبدالرحمن ابن خلدون، المقدمة، ص112.
المصدر: مجلة الطاهرة/ العدد 180 لسنة 2007م