قال الله سبحانه وتعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 133-143).
شعور إنساني
الغضب شعور إنساني أودعه الله في الإنسان، وهو تعبير طبيعي عن تفاعله مع ما يجول في داخله أو من محيطه. فمن الطبيعي للإنسان أن يغضب إن هو تعرّض لأذى جسدي أو معنوي أو مادّي، أو تعرّض لقهر أو إذلال أو إحباط، أو استعاد ذكريات مؤلمة، أو تعرّض لذلك مَن يرتبطون به أو مَن له هوى فيهم، أو عندما يُساء إلى دينه وقيمه، أو إلى مَن هم في موقع التقديس والإجلال عنده.
بل قد يكون من غير الطبيعي أن لا يغضب الإنسان عندما يتعرّض لمثل ذلك. فالغضب إذاً هو أمر طبيعي وصحّي، وقد يصبح واجباً عندما تستحلّ محارم الله أو تنتهك، وقد يكون أسلوباً حكيماً في الردع عن المنكر أو الانحراف. فقد ورد عن الإمام زين العابدين (ع): «قال موسى بن عِمران (ع): ياربّ! مَن أهلك الذين تظلّهم في ظلّ عرشك يوم لا ظلّ إلا ظلّك؟ فأوحى الله إليه: ... والذين يغضبون لمحارمي إذا استحلّت، مثل النمر إذا جرح».
وقد ورد عن الإمام عليّ (ع): «كان (ص) لا يغضب للدُّنيا، فإذا أغضبه الحقّ لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له».
الغضب المتفلّت
نعم، هذا الغضب قد يكون مشكلة لنفس الإنسان أو لمن حوله إن فقد السيطرة على نفسه. ولذا ورد أنّ الغضب ثورة في النفس تهدر كالبركان الغاضب، فإذا لم تتوجّه بأمر العقل، ولم تخضع لأحكام الدِّين، فهي تدمّر كلّ ما يقع أمامها.
ويكفي حتى يطّلع الإنسان على آثار الغضب الكارثية على الأفراد والمجتمعات، أن يذهب إلى المقابر أو إلى المستشفيات أو السجون أو البيوت أو الشوارع والقرى والأحياء، حتى يرى أنّ الغضب هو السبب في الكثير ممّن ماتوا أو سجنوا أو دخلوا المستشفيات، أو ينظر في أسباب المشاكل والتوترات التي تحدث داخل القرى والمدن، أو بين الفئات الدينية أو الاجتماعية أو السياسية.
فالغضب إن لم يقمع ويضبط، يحوّل صاحبه إلى وحش كاسر يجرح ويقتل ويدمّر، أو إلى شعلة نار تحرق نفسها وما حولها. لهذا، نحن معنيّون بإيجاد كوابح لهذا الغضب، وقد جاء الإسلام ليوجد في الإنسان هذه الكوابح.
تحفيزٌ على ضبط الغضب
ومن هنا، دعت الآيات والأحاديث الإنسان إلى أن يضبط غضبه، وأن يكبحه ويسيطر عليه مهما كانت قوّة الغضب، بحيث لا يتملّكه، ولا تنبع مواقفه منه.
وقد حفّز الله الإنسان لبلوغ هذه القيمة، عندما اعتبر المقابل لها مغفرةً منه، وجنّة عرضها السماوات والأرض، فقال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
وهذا التحفيز ورد في عدد من الأحاديث الشريفة. فقد ورد في الحديث: «مَن كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه، حشا الله قلبه أمناً وإيماناً يوم القيامة». وورد أيضاً: «ما من جَرعَةٍ أعظم أجراً عند الله تعالى مِن جَرعَة غَيظٍ كَظَمَها عبدٌ».
وقد اعتبر رسول الله (ص) أنّ ضبط هذا الانفعال، ثمّ توجيهه نحو الحقّ، يشكّل مظهراً من مظاهر قوّة الإنسان لا ضعفه، حيث ورد في سيرته، أنّه مرّ يوماً بقوم يرفعون حجراً، فقال: «ما هذا؟» قالوا: نعرف بذلك أشدّنا وأقوانا. فقال (ص): «ألا أخبركم بأشدّكم وأقواكم؟»، قالوا: بلى يا رسول الله. قال (ص): «أشدّكم وأقواكم الذي إذا رَضِي، لم يدخله رِضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط، لم يخرجه سخطه من قول الحقّ، وإذا قدر، لم يتعاط ما ليس له بحقّ».
فالله سبحانه يريد للإنسان أن يمسك بزمام انفعاله وتوتّره، وأن يتصرّف بوحي عقله، وبوحي إيمانه. والغضب إن هو استحكم بالإنسان، فسيفقد العقل دوره، ويوقع الإنسان فريسة غضبه وانفعاله. ففي الحديث: «مَن لم يملك غضبه لم يملك عقله». وقد ورد أنّ الحدّة ضرب من الجنون. فكما لم يرد الله للإنسان أن يتخلّى عن عقله بالخمر، ولذا حرّمه، فإنّه لم يرد ذلك بالغضب.
والغضب هو أيضاً نقيض الإيمان، فمعه تنفتح كلّ الشرور والأبواب للشيطان. فقد ورد في الحديث: «الغضب مفتاح كلّ شرّ»، «الغضب جمرة من الشيطان توقَد في قلب ابن آدم»، «بئس القرين الغضب: يبدي المعائب، ويدني الشرّ، ويباعد الخير».
وللغضب تداعيات سلبية كثيرة على مصير الإنسان وموقفه أمام ربّه، لأنّ الغضب يبدأ بالمعصية، ولا ينتهي بإلحاق الأذى والضرر بالآخرين؛ مَن سبّ لهم وشتم وضرب وظلم، وحتى قتل. وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص): «إنّ لجهنّم باباً لا يدخله إلّا مَن شفى غيظه بمعصية، ليكون العذاب أشدّ وأقسى».
الحاجة إلى تهذيب انفعالاتنا
إنّنا أحوج ما نكون إلى تهذيب انفعالاتنا وتوجيهها في هذه المرحلة، لأنّنا نعيش في واقعٍ يدعو إلى التوتر وفقدان الأعصاب، من القلق على الصحّة جراء الوباء، وضيق النفس بسبب العيش تحت سقف الحجر المنزلي، فضلاً عن الأعباء المعيشية التي تتفاقم وتلقي بثقلها على المواطنين.
ونحن لن نستطيع أن نعزل أنفُسنا عن هذا الواقع، أو أن نهرب منه، أو أن نتجرّد من أحاسيسنا، فلا نتوتر ولا نتفاعل مع ما يجري. فليس أمامنا في ظلّ هذه الظروف إلّا أن نبرّد التوتر في داخلنا وأن نعقلنه، ولا نتحرّك بوحيه، وأن نقنع أنفُسنا بحقيقة أنّ الغضب لا يحلّ مشكلة، بل قد يعقّدها ويزيدها، وأن نتدبّر جيِّداً في الآثار السلبية التي تترتّب على ترك الغضب يأخذ مداه، وفيما قد يؤدِّي إليه في مجال الصحّة الجسدية والنفسية، وما يؤدِّي إليه من إزهاق أرواح أو فتن لا ينفع بعد حدوثها الندم.
وليس صحيحاً ما يقوله البعض عندما تسألهم: لماذا لا تضبطون أعصابكم ولا توقفون غضبكم؟ يقولون: لسنا قادرين على ذلك. بل هم قادرون إن أرادوا، وإلّا كيف يأمر الله الإنسان بما لا يقدر عليه، والدليل، أنّهم يضبطون أعصابهم وانفعالاتهم وتوتراتهم عندما يتواجدون في محضر مَن يخشون منهم، أو عندما يكونون تحت الرقابة.
كيف نعالج الغضب؟
ويبقى أن نشير إلى أهمّ توجّهين لمعالجة الغضب؛ فقد ورد عن رسول الله (ص): «يا عليّ! لا تغضب، فإذا غضبت فاقعد وتفكّر في قدرة الربّ على العباد وحلمه عنهم، وإذا قيل لك: اتّق الله، فانبذ غضبك، وراجع حلمك». وقد ورد عن الإمام عليّ (ع): «داووا الغضب بالصمت».
ولم تكتف الآية القرآنية التي تلوناها في بداية الحديث بالدعوة إلى توقي الغضب ومنع تداعياته بكظم الغيظ، بل دعت إلى تحويله إلى فرصة إيجابية، عندما دعت الغاضب إلى العفو، وأن يبادل الإساءة بالإحسان، وهو ما أشارت إليه الآية: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصّلت/ 34-35).
وقد ورد في ذلك أنّ أعرابياً أتى إلى رسول الله (ص)، فأمسك بتلابيب صدره، وقال: اعطني يا محمّد، فليس المال مالك، ولا مال أبيك. فقال (ص) له: «دعني»، ثمّ أمر له بعطاء.
وقد عبّر عن ذلك الإمام عليّ بن الحسين (ع)، عندما كانت جارية له تسكب الماء على يديه ليتوضّأ، وبسبب تسرّعها، وقع الإبريق على رأس الإمام فشجّه، فقالت له: والكاظمين الغيظ، قال لها: «قد كظمت غيظي»، فقالت له: والعافين عن الناس، قال «قد عفوت عنك»، قالت: والله يحبّ المحسنين، قال: «اذهبي فأنت حرّة لوجه الله».
الصبر المطلوب
إنّ الغضب مدخل لكثير ممّا نعانيه من توتر في بيوتنا وأحيائنا وقرانا وأوطاننا، وبسببه، بتنا نعاني الفتن والحروب والمشاكل على أكثر من صعيد، وفي أكثر من ساحة، فنحن انفعاليون سريعو الاشتعال.
إنّنا مسؤولون في هذه الظروف التي من الطبيعي أن يكون الإنسان فيها متوتراً، خوفاً على نفسه وعلى مَن حوله، وعندما يسمع أخباراً ومآسي تحصل في داخل الوطن أو خارجه، وعندما تضيق الأرزاق، بأن نضبط انفعالاتنا، ونمسك بزمام أنفُسنا، ولا نسمح للتوتر بأن يخترق عقولنا ويلهب مشاعرنا.. أن نعدّ دائماً، كما يقال، للعشرة، قبل أن نتّخذ موقفاً، وأن نعرض كلماتنا ومواقفنا على العقل والإيمان، وأن نذكر أنّ الله سبحانه وتعالى أمرنا بالصبر. فلنصبر رجاء الحصول على ما أعدّه الله للصابرين، ولنذكر رحمته بأن نرحم عباده، ولاسيّما الضعفاء منهم، والذين يحتاجون إلى ودّنا ومحبّتنا، لا إلى عضبنا وانفعالنا، وحتى تمرّ هذه الظروف بسلام.. وأن يكون دعاؤنا الدائم الذي يعيننا على ذلك:
«اللّهُمّ إنّي أعوذ بك من سورة الغضب، وضعف الصبر، وشكاسة الخلق، ومَلَكة الصبر وقوّة الإرادة على نفسنا الأمارة بالسوء، وعلى وسوسات الشيطان لنا، وإلحاح الشهوة، ومَلَكة الحميّة، يا أرحم الراحمين».
وفي كلّ حال، لِتبقَ ألسنتنا وقلوبنا تلهج: «ياربّ، إنّ لنا فيك أملاً طويلاً كثيراً. ياربّ، إنّ لنا فيك رجاءً عظيماً. ياربّ، ارزقنا اليقين وحُسن الظنّ بك، واقطع رجاءنا عمّن سواك، حتى لا نرجو غيرك، ولا نثق إلّا بك يا أرحم الراحمين».