على الراغب في تحصيل العلم أن يغتنم التحصيل في الفراغ والنشاط وحالة الشباب وقوّة البدن ونباهة الخاطر وسلامة الحواسّ وقلّة الشواغل وتراكم العوارض، سيّما قبل ارتفاع المنزلة والاتّسام بالفضل والعلم، فإنّه أعظم صادٍّ عن درك الكمال، بل سبب تامّ في النقصان والاختلال.
هذا ما يقوله الشهيد الثاني وإنّه الرجل العالم الحكيم العارف بحقائق الاُمور والمجرّب لما يبتلى به طلاّب الحوزة.
وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي ذرّ الغفاري: اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، ودنياك قبل آخرتك، وحياتك قبل مماتك، وفراغك قبل شغلك.
والعلم في الصغر كالنقش في الحجر، ومثل الذي يتعلّم في كبره كالذي يكتب على البحر، وما اُوتي عالم علماً إلاّ وهو شابّ، فيلزم طالب العلم أن يستغلّ وقته، منذ الصغر، وفي بداية أمره وتعلّمه «ينبغي لطالب العلم أن يكون مستفيداً في كلّ وقت حتّى يحصل له الفضل، وطريق الاستفادة أن يكون معه في كلّ وقت (قلم وقرطاس) حتّى يكتب ما يسمع من الفوائد، قيل: (ما حفظ فرّ، وما كتب قرّ)، قيل: (العلم ما يؤخذ من أفواه الرجال؛ لأ نّهم يحفظون أحسن ما يسمعون، ويقولون أحسن ما يحفظون)، ووصّى شخص لابنه بأن يحفظ كلّ يوم شقصاً من العلم، فإنّه يسير وعن قريب يصير كثيراً، فالعلم كثير والعمر قصير، فينبغي أن لا يضيّع الطالب له الأوقات والساعات، ويغتنم الليالي والخلوات، قيل: (الليل طويل فلا تقصّره بمنامك، والنهار مضيء فلا تكدّره بآثامك).
وينبغي لطالب العلم أن يغتنم الشيوخ ويستفيد منهم، ولا يتحسّر لكلّ ما فات، بل يغتنم ما حصل له في الحال والاستقبال من تحمل المشاقّ والمذلّة في طلب العلم، والتملّق مذموم، إلاّ في طلب العلم، فإنّه لا بدّ له من التملّق للاُستاذ والشركاء وغيرهم للاستفادة، وقيل: (العلم عزّ لا ذلّ فيه، ولا يدرك إلاّ بذلٍّ لا عزّ فيه) «[1].
» قيل: وقت التعلّم من المهد إلى اللحد، وأفضل أوقاته شرع الشباب، ووقت السحر وما بين العشائين، وينبغي أن يستغرق جميع أوقاته، فإذا ملّ من علم يشتغل بعلم آخر، وكان محمّد بن الحسن لا ينام الليل، وكان يضع عنده دفاتر إذا ملّ من نوع ينظر إلى نوع آخر، وكان يضع عنده الماء ويزيل نومه بالماء، وكان يقول: النوم من الحرارة «[2].
وبنظري على طالب العلم أن يطالع كثيراً، ليل نهار، والمطالعة كباقي الصفات والأعمال من قسم العادة، فإذا اعتاد الإنسان عليها، فإنّه من الصعب تبديل العادة، فإنّها طبيعة ثانويّة في الإنسان، فلا بدّ أن يعوّد نفسه على المطالعة مع مراعاة شرائطها وآدابها، وثمرتها أنّ سماء ذهن المطالع تمتلئ من الأسحبة المختلفة والمتفاوتة، وهذا يعني أ نّه يطالع كلّ شيء حتّى القصص البوليسيّة، ونتيجة المطالعات الكثيرة والمختلفة، أنّها في سماء الذهن تصطدم بعضها مع بعض فيتولّد منها الرعد والبرق، ثمّ المطر والوابل ـ كما في سماء الطبيعة ـ وهي التي تسمّى بالرشحات الفكريّة، والنتائج العقلانيّة، ويأتي للمجتمع بشيء جديد، وموضوع لم يسمع من قبل، ويقال: فلان العالم منظّر وانّه صاحب نظرية جديدة، وفكر عملاق، وما شابه ذلك من الكلمات التي تنبئ عن أمر مبتكر جديد.
ثمّ على طالب العلم أن يتأمّل فيما يقرأه ويطالعه ويدرسه (ينبغي لطالب العلم أن يكون متأمّلا في جميع الأوقات في دقائق العلوم، ويعتاد ذلك، فإنّما يدرك الدقائق بالتأمّل، ولهذا قيل: «تأمّل تدرك»، ولا بدّ من التأمّل قبل الكلام حتّى يكون صواباً، فإنّ الكلام كالسهم، فلا بدّ من تقديمه بالتأمّل قبل الكلام، حتّى يكون ذكره مصيباً في اُصول الفقه، هذا أصل كبير، وهو أن يكون كلام الفقيه المناظر بالتأمّل، ويكون مستفيداً في جميع الأحوال والأوقات، وعن جميع الأشخاص، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الحكمة ضالّة المؤمن، أينما وجدها أخذها»، وقيل: «خذ ما صفى، ودع ما كدر»، وليس لصحيح البدن والعقل عذر في ترك العلم)[3].
(ثمّ لا بدّ لطالب العلم من الجدّ والمواظبة والملازمة قيل: «من طلب شيئاً وجَدَّ وَجَد، ومن قرع باباً ولَجَّ وَلَج»، وقيل: «بقدر ما يسعى ينال ما يتمنّى «.
قيل يحتاج في التعلّم إلى جدّ الثلاثة: المتعلّم والاُستاذ والأب إن كان في الحياة.
ولا بدّ لطالب العلم من المواظبة على الدرس والتكرار في أوّل الليل وآخره وما بين العشائين، ووقت السحر وقت مبارك، قيل: «من أسحر نفسه بالليل فقد فرح قلبه بالنهار»، ويغتنم أ يّام الحداثة وعنفوان الشباب، ولا يجتهد نفسه جهداً يضعف النفس، وينقطع عن العمل، بل يستعمل الرفق في ذلك، والرفق أصل عظيم في جميع الأشياء.
ولا بدّ لطالب العلم من الهمّة العالية في العلم، فإنّ المرء يطير بهمّته، كالطير يطير بجناحيه، فلا بدّ أن تكون همّته على حفظ جميع الكتب حتّى يحصل البعض، فأمّا إذا كان له همّة عالية ولم يكن له جدّ، أو كان له جدّ ولم يكن له همّة عالية، لا يحصل له إلاّ قليلٌ من العلم، وينبغي أن يتعب نفسه على الجدّ والتحصيل والمواظبة بالتأمّل في فضائل العلوم ودقائقها، فإنّ العلم يبقى، وغيره يفنى، فإنّه حياة أبديّة، قيل: «العالمون أحياء وإن ماتوا»، «العلماء باقون، أعيانهم مفقودة، ومحبّتهم في القلوب»، وكفى بلذّة العلم داعياً إلى التحصيل للعاقل)[4].
فلا بدّ من النشاط الدائم في تحصيل العلم، والتفقّه في الدين، قيل: تفقّهوا قبل أن تسوّدوا، أي تصيروا سادة، فتأنفوا من التعلّم او تستحيوا منه بسبب المنزلة، فيفوتكم العلم. وقال آخر: تفقّه قبل أن تترأّس، فإذا رئست فلا سبيل إلى التفقّه. وعن ابن عباس: ما اُوتي عالم علماً إلاّ وهو شابّ، وقد نبّه الله تعالى ذلك بقوله: (وَآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيَّاً)[5].
وهذا باعتبار الغالب، وإلاّ فمن كبر لا ينبغي له أن يحجم عن الطلب، فإنّ الفضل واسع والكرم وافر، والله المعين، وأبواب الرحمة مفتّحة، وإذا كان المحلّ قابلا تمّت النعمة وحصل المطلوب، والله سبحانه يقول: (وَاتَّقوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ)[6].
(وَلَمَّـا بَلَغَ أشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حَكْماً وَعِلـْماً)[7].
وقد اشتغل جماعة من السلف في حال كبرهم حتّى فاقوا الشباب، فتفقّهوا وصاروا أساطين في الدين وعلماء مصنّفين في الفقه وغيره، فليغتنم العاقل عمره، وليحرز شبابه عن التضييع، فإنّ بقيّة العمر لا ثمن لها[8].
فاطلب العلم من المهد إلى اللحد، وليغتنم العاقل عمره الثمين، وليحرز شبابه عن البطالة والتضييع.
وإذا رجعنا إلى سيرة فطاحل العلم وعباقرة الفنّ والأدب رأينا أنّ الغالب فيهم إنّما نال درجات العلى، وفاق الأقران وحاز السبق، من اتّبع نفسه في صباه وأيّام شبابه، ولهذا يقال: من أتعب نفسه في شبابه استراح في شيبته.
وقال بعض السلف: لا يطلب أحد هذا العلم بعزّ النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح.
وقال آخر: ولا يبلغ أحد من هذا العلم ما يريد حتّى يضرّ به الفقر، ويؤثره على كلّ شيء.
وهذا كلّه وإن كان فيه مبالغة، فالمقصود أنّه لا بدّ فيه من جمع القلب واجتماع الفكر، وأن يقطع من العوائق الشاغلة والعلائق المانعة من تحصيل العلوم والفنون.
سماحة السيد عادل العلوي – بتصرّف
[1]آداب المتعلّمين، جامع المقدّمات 2: 57.
[2]آداب المتعلّمين، جامع المقدّمات 2: 57.
[3]آداب المتعلّمين ـ جامع المقدّمات 2: 54.
[4]المصدر: 53.
[5]مريم: 12.
[6]البقرة: 282.
[7]القصص: 14.
[8]منية المريد: 226.