إنّ الحديث حول أزمة أخلاقيّات العلم في الغرب قد بدأ يتعاظم وبشكل أكثر جدّيّة أبّان الثورة البيولوجيّة في تسعينيّات القرن الماضي حيث انتقلت عقول وطاقات وإمكانيّات من كلّ العالم لدراسة الكون والعالم الخارجيّ إلى دراسة عالم آخر منطوٍ في داخل الإنسان وسائر الكائنات الحيّة، يعجّ بالمعجزات والعجائب، وحيث يعتبر المتابعون أنّ سلوك بعض العلماء في بحوثهم في فرعٍ ما من هذه العلوم هو المعيار الذي على أساسه نقيم أحكامنا الخلقيّة على العلم نفسه، مكتفين بما يقدّمون من دون ربط هذه الأخلاقيّات بالأبعاد الإنسانيّة والروحيّة التي أرادها الله تعالى من خلال دعوات أنبيائه (عليهم السلام).
فقد اصطدمت الغوغائيّة السياسيّة وسباق التسلّح والمنفعة الشخصيّة بالقواعد والأبعاد الإلهيّة، وحصل الاصطدام داخل بلدان الغرب الليبراليّ ودون استثناء، وتبيّن أنّ قيم المنطق العلميّ الجافّة لم تجد آذانًا صاغية لدور الفطرة البشريّة في الحكم على الأشياء وتجاوزت البُعد الإنسانيّ في عملها وانطلقت لتجد نفسها أمام سؤال خطير: إلى أين نمضي في أبحاث تهدّد الإنسانيّة بالانقراض كالسلاح النوويّ واكتشاف جينات لا مصلحة للبشريّة فيها لا بل هي في الواقع تهديد للوجود الإنسانيّ على مستوى الكرة الأرضيّة وكلّ الكون.
لذلك شكّلت أخلاقيّات العلم عقبة معنويّة أمام انطلاق مؤسّسات البحث العلميّ في الغرب من أن تتفلّت دون قيود أو ضوابط، وسرعان ما تجاوز الغرب الحرج والإرباك أمام مبادئ الأخلاقيّات اللازمة لبحث علميّ نظيف ووضع بها جانبًا في كلّ مرة كانت تصطدم بمشروعه، وبرّر أبحاثه الجائرة في كثير من الأحيان بعنوان المصلحة العليا للدولة والمصالح الاقتصاديّة والسياسيّة وحتّى التوسعيّة في بلدان العالم وأسواقه.
ففي الوقت الذي اعتبر فيه أنّ الكرامة الإنسانيّة وحريّة المرء يجب أن تعلو فوق أيّ قيمة بحثيّة، ودعا إلى توجيه الأبحاث في مجالات علوم الأحياء والوراثة والطبّ إلى رفع معاناة الإنسان وتحسين صحّة الجنس البشريّ، إلّا أنّه أكّد على حريّة البحث العلميّ من دون توضيح أو وضع للحدود باعتباره جزءًا من حريّة التفكير التي تكفّلتها القوانين الدوليّة([1])، لا بل لم تضع (منظمة اليونسكو عام 1997) أي ضوابط صارمة لممارسة الأبحاث المرتبطة بالجينوم البشريّ باستثناء ما أصدرته المجموعة الأوروبيّة لأخلاقيّات العلم والتكنولوجيا الحديثة عام 1998 بوجوب التقييم الأخلاقيّ للأبحاث وفي أجواء الشفافيّة التامّة، مكرّرة الشروط المعتادة لأيّ بحث علميّ.
وقد أخفت صحافة الغرب، على سبيل المثال، الإضاءة عن مشاريع سريّة قامت بها الولايات المتّحدة على الكائنات البشريّة أثناء الحرب الباردة، وتستّرت على دراسات حول الأساس الوراثيّ للذكاء وكان النموذج الأمريكيّ الأشدّ فظاعة للعسكرة والسباق إلى التسلّح، البرنامج الهائل الذي أطلقته الولايات المتّحدة عام 1978 والذي رصدت له الحكومة الأمريكيّة 1555 مليار دولار، بمعدّل صرف يوميّ يتجاوز المليار دولار وبشكل وصفه المتابعون آنذاك بالجنون النوويّ التامّ، ولا زالت حتّى اليوم شركات الأدوية تجري التجارب الكيميائيّة على البشر في أفريقيا لدراسة فعّاليّة الأدوية، ورفض عدد كبير من العلماء الحديث عن مشكلة الأخلاق في العلم معتبرين أنّ الانحراف لا يحدث كثيرًا وعندما يحدث لا يؤثّر على البيئة البحثيّة التي انطلق منها، فيما ذهب آخرون لنفي أصل المشكلة الأخلاقيّة في عالم البحث العلميّ طالما أنّهم ينظرون إلى العلم بوصفه موضوعيًّا، حيث يدرّس الوقائع ويستخدم مناهج معروفة، واعتبر علماء في مجال آخر أنّ بحثهم العلميّ هو مهنة عليهم النشر حولها حتّى يستمرّوا في تقدّمهم المهنيّ وتزداد الموازنة المخصّصة لهم وإلّا نفتهم الجامعة خارجها، ولذا كان بعضهم مفتونًا بانتهاك المبادئ الأخلاقيّة وذلك من أجل التقدّم في مسارهم المهنيّ.
وبناءً على ما تقدّم، نجد في الغرب ثمّة مَن يقسّم أهداف العلم إلى إطارين: أهداف معرفيّة وأهداف عمليّة ([2]). الأهداف المعرفية أنشطة تتقدّم على ضوئها المعارف البشريّة وتتضمّن وصفًا دقيقًا للطبيعة ونظريّات وفروض تفسيريّة متنامية يتمّ تناقلها وتطويرها من جيلٍ إلى جيل. أمّا الأهداف العمليّة فهي في الواقع حلّ لمشاكل معيّنة في الطبّ والهندسة والاقتصاد والزراعة باتّجاه تحسين صحّة البشر وزيادة القوّة التكنولوجيّة والسيطرة على الطبيعة، ويذهب هؤلاء إلى تحديد مبادئ أخلاقيّات العلم بالعناصر التالية: الأمانة، الحذر واليقظة، الانفتاح والتشارك في البحث عن المعرفة، الحريّة كمفتاح للإبداع بعيدًا عن ضغوط المموّلين والحكومات، ثمّ التقدير والتكريم، نقل المعرفة دون قيود، المسؤوليّة تجاه المجتمع بعدم استجلاب الضرر له، الالتزام بالأطر الموضوعيّة والاحترام المتبادل واحترام الذات، ونتيجة لذلك غاب التفاعل المطلوب بين وجهتي العلم: المعرفيّة والعمليّة وتضرّرت كلّ منهما، فابتعد العلم التجريبيّ عن الضوابط المنظّمة لحركته ولآفاق عمله المستقبليّة، وتضرّرت العلوم الإنسانيّة بخسارة حقائق ووجهات عمل لديها كانت لتغنيها ولا شكّ في حركتها المستقبليّة نحو فهم أعمق لحقائق الكون والإنسان، وكان المبرّر الحقيقيّ لهذا الانفصال المتعمّد خشية بعض الدول عن فقد أولويّتها في السباق المحموم في ساحة العلم، انطلاقًا من قناعتها أنّ التقدّم العلميّ سيكون أداة الاقتدار والتسيّد في الساحة الدوليّة، فضلًا عن كونه أداة غنى ورفاهيّة وردع لمواجهة طغيان الدول الأخرى..
أمّا على مستوى النشر، فتتحدّد أخلاقيّات العلم بالعمل الموضوعيّ في النشر وفي الدور المفصليّ للجان التحكيم التي تطلق أحكامها على الموضوع سلبًا أم إيجابًا وضرورة إيلاء التقدير لمستحقّه مع ضرورة ضبط كلّ أشكال الانتحال، مع احترام الملكيّة الفكريّة وتقدير المستحقّ وتكريمه.
وتطرح بقوّة مشكلة العلاقة بين الناس ونتائج البحث العلميّ والتي قد تتحوّل أحيانًا إلى سوء تفاهم سببه: افتقار العامّة من الناس إلى المعطيات الأوّليّة عن العلم وإلى فهم النظريّات المعقذدة والمعلومات الإحصائيّة وتفضيلهم العلوم المسطّحة والبالية مع رفضهم العمل العبقريّ، وتساهم وسائل الإعلام في إساءة فهم العلم عن طريق التقديم الخاطئ أو التبسيط الزائد للفكرة أو الاعتماد على مصادر غير موثوقة لجهة توافر الجدّيّة والدقّة والحذر والأمانة العلميّة في إدارة البحث واستخلاص النتائج أو تطبيقها، وعلى الرغم من قرارات الحظر التي أصدرها الكونغرس الأمريكيّ بحظر الأموال الفدراليّة لتمويل الأبحاث المستخدمة للأجنّة إلّا أنّه وفي العام 1999 عاد عن قراراته ورفع الحظر عن هذه الأبحاث وكذلك فعلت المجموعة الأوروبيّة لأخلاقيّات العلم والتكنولوجيا، ولا زال العلماء يضغطون لرفع القيود عن الأبحاث مستندين إلى ورقة رابحة مفادها أنّ سرعة التقدّم في البحوث العلميّة تتجاوز القوانين القائمة وتتجاوز المفاهيم القائمة في المجتمع والتي تريد استيعاب تلك المتغيّرات.
وقد وقف العلم أمام تحدّيات أخلاقيّة كبيرة كان منها على سبيل الذكر في مجالات الطب: أولويّة المحافظة على الحياة البشريّة وقضيّة القتل الرحيم والترويج السائب للأدوية وشاعت نماذج الإساءة إلى إنسانيّة الإنسان بمعالجة هذه المعضلات وأزهقت أرواح بشريّة كثيرة مرّة جديدة في الصراع بين الممارسة الخاطئة والمنفعة البشريّة المباشرة وكان النصر حينها للمادّة والمصلحة وفازت شركات التأمين ومصانع الأدوية في المعركة ككلّ مرّة وبانت جوانب مظلمة من النتيجة: استفحال الفقر والجوع وانتشار الأوبئة في جهات العالم الأربعة وتبيّن أنّ المرتكزات الحاكمة لأخلاقيّات العلم في الغرب وعلى الرغم من أدبيّاتها الكثيرة وظهور المقالات والكتب والمؤتمرات والتوصيات، كانت أقلّ من مستوى المواجهة وأنّ لجشع الغرب ولوحشيّته الكلمة المسموعة في نهاية المطاف.
وحول التجارب على البشر، انطلق البحث العلميّ لضبط الانفلات في هتك أخلاقيّات العلم وسعى جدّيًّا بهذا الاتّجاه حماية لنفسه ولبني جلدته وأطلق ما عُرف بمدوّنة نورمبرغ (1949) والتي نصّت على موافقة المريض على التجربة وعلمه بالعواقب وعلى أن تكون التجربة ذات أثر على المجتمع ككلّ وغير مؤذية وعلى أن يجريها علماء مؤهّلون يحافظون على السرّيّة والخصوصيّة للمريض عند الضرورة وكل ّذلك انطلاقًا من أنّ البشر يملكون قيمة متأصذلة بهم.
إنّ أفراد المجتمع هم محتاجون إلى الدراية الكافية بأمور وحقائق البحوث المخبريّة وذلك لتمكينهم من الحماية من مخاطر العلم العبثيّ، والعالِم في المختبر يكون أسير صراع بين شخصيّتين له: شخصيّة العالم المحترف ذي السلطة العلميّة المكافح من أجل الموضوعيّة والأمانة، وشخصيّة المواطن الذي يمتلك الحقّ في التعبير عن آرائه الذاتيّة والحريّة في التفكير واستثمار المعلومات لتطوير مشاريع سياسيّة واجتماعيّة كما أنّ شهادة الخبرة التي يؤدّيها العالم الباحث في المحكمة قد تكون مفصليّة لاتّهام أو لتبرئة متّهم أو لإثبات مسؤوليّة قانونيّة لشركة أو مؤسّسة ما، فهي قناة إلى صراع المصلحة بين وضعه الفرديّ والتزامه كباحث موضوعيّ.
أخلاقيّات العلم عند الإمام الخامنئي، د. عبد الله زيعور
[1] د. محمّد عفيفي، أخلاقيّات العلم، كتاب الهلال عدد 597، (2006).
[2] دايفيد رزنيك، أخلاقيّات العلم، سلسلة عالم المعرفة 316 (الكويت: 2005).
أزمة المعايير لأخلاقيّات البحث العلميّ في الغرب
نشرت في
معرفة و أخلاق