أوّلاً: حقيقة التدبير:
إنّ التدبير من الأفعال التي نسبها الله تعالى إلى نفسه، إذ وصف ذاته المقدّسة بالمدبّر، كما ألهم عباده هذه الخصلة الحميدة، وحثّهم على التحلّي بها، والسعي الجاد لاكتسابها، بوصفها فضيلة من أسمى الفضائل.
وعلى مرّ العصور، نشهد أنّ الحياة الجماعيّة المتمثّلة في القبيلة وسائر المجتمعات البشريّة، دائماً ما يشوبها تضارب في المصالح، وتخيّم عليها الحروب، أو يسودها السلام وروح التعاون. وفي خضمّ هذه الأوضاع، نجد أنّ العقل السليم يحكم بضرورة حُسن التدبير في شؤون الحياة، ووجوب التفكير في عواقب الأمور، لكي يتسنّى للناس التمتّع بحياةٍ طيّبةٍ.
وخلال التطوّر التدريجيّ الذي شهدته الحياة البشرية، واتّساع رقعة المدنيّة، اتّضحت أهمّيّة التدبير، وبات ضرورة حياتية ملحّة، فانتهجه الناس، لترشيد أفكارهم وأعمالهم، في مختلف شؤون الحياة، السياسيّة، والثقافيّة، وغيرهما، نحو الاتّجاه الصحيح، بغية بلوغ الكمال المنشود.
وشجّعت الأديان السماويّة - بدورها - الإنسان على التدبّر في عظمة خلق الله تعالى، مسترشداً بهدي فطرته السليمة التي فطره الله تعالى عليها، وذلك لكي يستلهم من تدبير خالقه الطريقةَ المثلى لتدبير شؤون حياته.
وأولى القرآن الكريم هذا المفهوم السامي أهمّيّةً بالغةً، حيث زخر بمضامين تؤكّد هذه الأهمّيّة في إطار مفرداتٍ عديدةٍ، مثل(مدبّر) و(تدبير) وما شابههما، والتي توحي لنا المعنى المراد اليوم من كلمة (الإدارة) السائدة بين الناس، وتشمل مفاهيم البرمجة، والتّخطيط، والتّنظيم، والانسجام، والتّوجيه الصحيح، الكامنة في مبدأ تدبير الأمور. ولا شكّ في أنّ الإنسان لا يمكنه أن يرجو خيراً من أفعاله دون تحقّق هذه الأمور.
وقد صوّر القرآن الكريم واقع التدبير في حياة الأنبياء عليهم السلام، ولا سيّما تدبير النبيّ يوسف عليه السلام الذي كان أميناً على خزائن مصر، حيث انتشل أهل مصر من الفقر والمجاعة، بحنكته، وتدبيره، وتخطيطه الصحيح، حينما حلّ بهم القحط والجدب[1]. ومن هذا المنطلق، كان التدبير ذا تأثيرٍ مباشرٍ على مجالات الحياة كافّةً، ولا يختصّ بالمأكل والمشرب فقط، لأنّ تأثيره مشهودٌ على ثقافة الإنسان وعقائده وحياته، الاجتماعيّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة[2]. لذا أكّد المعصومون عليهم السلام على وجوب اتّباع منهج التّدبير الصّحيح في مختلف شؤون الحياة[3].
ثانياً: أهميّة التدبير:
لا يختلف اثنان في أنّ تدبير شؤون الحياة يُعدّ من الأمور الهامّة لكلّ إنسانٍ. وبالطبع، فإنّ هذا الأمر مرهونٌ بتطبيق تعاليم الشريعة، والانتهال من منهلها العذب، والاستعانة بما أنعم الله علينا من قوى إدراكيّة.
فتنظيم شؤون الحياة حسب تعاليم ديننا الإسلاميّ التي وردتنا عن طريق الوحي المقدّس، من شأنه أن يفتح لنا باب السّعادة على مصراعيه. والمجتمعات البشريّة اليوم بحاجةٍ ماسّةٍ إلى التّعاليم الدينيّة، والعمل بالوصايا المُطَابِقَة للفطرة التي فطر الله النّاس عليها.
وحسب اعتقادنا، فإنّ الشريعة الإسلاميّة تكفّلت بوضع برنامج شامل ومتكامل يهدي الإنسان إلى السعادة المنشودة في الدّنيا والآخرة، لأنّها تتناول جميع جوانب الحياة المادّيّة والمعنويّة، للفرد والمجتمع على حدٍّ سواء.
ومن الطبيعيّ أنّ الإنسان في بادئ الأمر بحاجةٍ ماسّةٍ إلى معرفة الدّين، وإدراك مفاهيمه، فالذي لا دين له لا حياة له. ومن هنا، ينبغي عليه المثابرة، لتنظيم شؤون معيشته، بحُسن التقدير، ثمّ بعد ذلك لا بدّ له من الصبر وتحمّل المصاعب التي تعترض طريقه. وقد أكّد الإمام جعفر الصادق عليه السلام على هذه الحقيقة، بقوله: "لا يَصلُحُ المؤمنُ إلا على ثَلاثِ خِصالٍ: التَّفقُّهِ في الدِّينِ، وحُسنِ التَّقديرِ في المعيشةِ، والصَّبرِ على النّائبَةِ"[4].
إذن، تدبير شؤون الحياة لا بدّ وأن يكون متزامناً مع أمرين هامّين، هما: التعمّق في تعاليم الدين، والصبر على النوائب.
كما أنّ هناك أمرين يُعدّان جوهر المعيشة وأساسها، وهما: الاعتدال، بمعنى: عدم الإسراف، واجتناب تبديد الجهود، وإهدار الثّروة، والتّدبير، بمعنى: التّفكير في عواقب الأمور، وحسن التخطيط، والإدارة الصحيحة. وروي أنّ رجلاً قال للإمام جعفر الصادق عليه السلام: بلغني أنّ الاقتصاد والتدبير في المعيشة نصف الكسب! فقال عليه السلام: "لا، بَل هُو الكسبُ كلُّهُ، ومِن الدِّينِ التَّدبيرُ في المعيشةِ"[5].
ويكون التّدبير - دائماً - متناغماً مع العلم، والمعرفة، والخبرة، والعقل، فهو بطبيعته بعيدٌ عن العمل من دون تعقّلٍ. ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلامٌ رائعٌ عن التدبير، عندما خاطب ابن مسعود، قائلاً: "يا ابن مسعود، إذا عملتَ عمَلاً فاعملْ بعلمٍ وعقلٍ، وإيّاكَ وأنْ تعملَ عملاً بغيرِ تدبّرٍ وعلمٍ، فإنّه جلَّ جلالهُ يقولُ: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثَاً"[6].
آثار حسن التّدبير:
أكّد الإمام عليّ عليه السلام على وجوب اتّصاف المؤمنين برؤيةٍ مستقبليّةٍ تدبيريّة، حين قال: "المؤمِنُونَ هُم الَّذينَ عَرَفُوا ما أمامَهُمْ"[7].
فلحُسن التدبير تأثيرٌ كبيرٌ على رقيّ شخصيّة الإنسان، من خلال ما يمدّه من نفاذ بصيرة في شؤون الحياة كافّة، ويمكّنه من تحقيق أهمّ متطلّبات حياته في مختلف المجالات، مثل:
1- استثمار الثروة بطريقةٍ مُثلى.
2- اجتناب الإسراف في النعمة أو إتلافها بغير وجه عقلائي.
3- عدم الاضطرار إلى تكرار عملٍ ما.
4- المكانة الرفيعة في المجتمع.
5- الثقة بالنفس.
6- صحّة التعامل الماليّ مع الآخرين.
7- سلامة النفس، والعزّة، وراحة البال.
فن التدبير في المعيشة - رؤية قرآنية روائية، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] يوسف: 47-49.
[2] تجدر الإشارة إلى وجود عدّة كتب مدوّنة بصدد التّدبير, ما يؤكّد اهتمام العلماء والباحثين بهذا الموضوع الحسّاس، ونذكر منها ما يلي:
ـ (تدبير المنزل) أو (السياسة الأهليّة)، تأليف الشيخ الرئيس أبي عليّ الحسين بن عبد الله بن سينا، طبع في بغداد سنة 1347هـ.
ـ تدبير المنزل ورعاية الطفولة(تدبير منزل ودستور بچه داری)، تأليف بدر الملوك تكين، طبع في طهران.
ـ تدبير المنزل (تدبير منزل)، تأليف بدر الملوك بامداد، طبع في طهران.
[3] الحكيميّ، محمّد رضا, علي رضا: الحياة، ط1، طهران، منشورات مكتب ترويج الثقافة الإسلاميّة، 1368هـ.ش، ج4، ص346-354.
[4] الحراني، ابن شعبة: تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لاط، قم المقدّسة، منشورات الشريف الرضيّ، لات، ص263.
[5] الطوسي، محمد بن الحسن: الأمالي، لاط، قم المقدّسة، منشورات مكتبة الداوريّ، لات، ج2، ص458.
[6] الطبرسي، الفضل بن الحسن: مكارم الأخلاق، ط1، طهران، منشورات دار المعرفة، 1365هـ.ش، ص458.
[7] المجلسي، محمّد باقر: بحار الأنوار، ط2، بيروت، منشورات مؤسّسة الوفاء، 1403هـ.ق، ج75، ص25.