كيف نوحِّد الله في العقيدة؟

قيم هذا المقال
(0 صوت)
كيف نوحِّد الله في العقيدة؟


إنَّ توحيد الله تعالى تارة يتمّ الحديث عنه تارة على مستوى الاعتقاد، وطوراً على مستوى السلوك والعمل، وإجابتنا هنا مخصّصة بالتوحيد الاعتقادي الذي له مراتب منها:

1- التوحيد في الذات
المراد به الاعتقاد بأنّ ذات الله واحدة غير مركّبة من أجزاء، وهذا ما أثبتناه سابقاً عند إثبات أنّ الله تعالى غنيّ، وبالتالي لا يمكن أن يكون مركباً، فهو واحد في ذاته.

ومن لوازم هذا الاعتقاد أنّه لا جسم له، ولا مكان له، ولا زمان له، كما تقدّم، كما أنّ من لوازم هذا الاعتقاد أنّه عز وجل لا يمكن أن يحدَّد من خلال تصوّر الإنسان له. من هنا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "التوحيد أن لا تتوهمه"[1]، أي أن لا تتصوّره بوهمك. فالإنسان قاصر عن إدراك حقيقة الله تعالى وكنهه، لذا نلاحظ في القرآن الكريم أنّ فرعون حينما سأل نبي الله موسى (عليه السلام) عن حقيقة الله بقوله: " قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى"2 فإنّ كليم الله موسى (عليه السلام) لم يجبه ببيان الحقيقة، بل ببيان الفعل الإلهي، " قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى "3.

2- التوحيد في الخالقية
والمراد به الاعتقاد بأنّ الله تعالى هو وحده خلق كلّ الكون والوجود، دون أن يشاركه أحد.

ومن الأدلّة على أنّه الخالق الوحيد للكون:

وحدة النظام وتناسقه
إن نموّ النباتات وحياة الحيوانات مرتبطان بنور الشمس الذي يصل من مسافة 90 مليون ميل، إلا أنّ الحبوب التي تنمى بالشمس بحاجة إلى تبريد من خلال ضوء القمر الذي يصل من مسافة 300 ألف كلم.

وكما أنّ الحيوانات بحاجة إلى النباتات لأنّها تفرز الأوكسجين الضروري لحياة الحيوانات، فإنّ كُلاًّ منهما بحاجة إلى الماء، والماء بحاجة إلى الشمس التي تبخِّره لتتحرك من ملايين الأطنان إلى السماء؛ لتحدث الغيوم، لتمطر على الأرض.

وإنّ من الأشجار ما يحتاج إلى الرياح لأجل التلقيح.

وإنّ النحل بحاجة إلى الورود لتتغذّى منها، وإنّ الورود بحاجة إلى النحل لتتلاقح.

وإنّ الخروف الذي يأكل العلف يمتاز بمعدة هاضمة للعلف، وأسنان آكلة له، بينما الحيوانات التي تأكل اللحوم تتميّز بمعدة هاضمة للّحوم.

إنّ هذا الكون متّصل بعضه ببعض، ومتناسق بعضه مع بعض، ومحتاج بعضه إلى بعض، بما يدلّ بوضوح على أنّ خالقه ومبدعه ومنظّمه ومنسقه هو واحد لا شريك له.

فلو كان له شريك لما رأينا هذا النظام والتناسق الدقيق، بل لدخلت الأشياء في بعضها البعض مما يُؤدّي إلى فساد الكون، وهذا ما أشار إليه الله تعالى بقوله: " لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا "4.

قال صدر المتألهين الشيرازي في الأسفار: "إنّ مجموع العالم من حيث هو مجموع شخص واحد، له وحدة طبيعية، وليست وحدته كوحدة أشياء متغايرة اتفق أنْ صار بالإجماع والانضمام كشيء واحد، مثل اجتماع البيت من اللبنات، والعسكر من أفراد، وذلك بأنّ أجزاء العالم بينها علاقة ذاتية؛ لأنّها حاصلة على الترتيب العلّي والمعلولي"5.

وقال الفيلسوف الألماني "كنتْ": "إن الطبيعة واحدة، وأجزاءها مترابطة، وإذا كان لكلّ كوكب وجرم قانون خاص به، فإنّ هناك قانوناً يشمل الجميع. وهذه الوحدة في القانون والترابط تدلّ على تنظيم، ومنظِّم واحد".

الخلق بمعنى الإبداع
لا بدّ من الإلفات إلى أنّ التوحيد في الخالقية يراد منه أنّ الله تعالى هو المبدع بمعنى الموجِد من العدم، أمَّا الخلق بمعنى التشكيل الجديد من مادة سابقة كما يشكّل الرسام لوحة جميلة على خشبة من الشجر، بألوان من الطبيعة. وريشة من الطير، فإنّ خلقه للوحة بمعنى التشكيل من مادة سابقة لا يتنافى والتوحيد في الخالقية؛ لأنَّ معناه بالتحديد هو التوحيد في الإبداع، لا في الخلق من مادة.

ونحن غير "معقَّدين" من استعمال الألفاظ طالما أنّ قرينة المعنى الصحيح معها، فحينما يقال عن فنان ما بأنّه "خلاَّق"، وهي صيغة مبالغة من "خالق"، فلا عقدة في ذلك طالما أنّ المراد لا يتنافى مع التوحيد بالمعنى الذي أوضحناه.

من هنا نسب القرآن الكريم الخلق للنبي عيسى (عليه السلام)، بمعنى التشكيل من مادة سابقة، إلاّ أنَّ القرآن الكريم ليبعد الناس عن الوهم بأنّ عيسى (عليه السلام) إله قيّد ذلك بقوله بإذن الله، وإلا فإنّ كلّ شيء يحصل فهو بإذن الله. قال تعالى عن لسان عيسى بن مريم (عليه السلام): " أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ "6.

" وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي "[7].

أثر التوحيد في الخالقية على الفقه
وهذا الأمر له انعكاس في الفقه العملي، فإنّ التغيير في المخلوقات حينما لا يحصل منه الضرر، فإنّه لا يناهض عقيدة التوحيد في الخالقية، كما توهَّم البعض في فتاوى غريبة، فقد قرأت في السعودية منشوراً فيه استفتاء للمفتي العام وقتها يُسأل فيه: هل يجوز للمرأة أن تزيل شعر ساقيها؟ فأجاب: "لا يجوز ذلك؛ لأنّه تغيير في خلق الله".

إنّ مثل هذه الفتاوى فضلاً عن كونها لا تنافي التوحيد، فإنّها تعطِّل العقل الإنساني عن التطوّر.

على أساس ما تقدّم نفهم خلفيّة الحكم بحرمة الاستنساخ عند الكثيرين انطلاقاً من أنّه نوع من الخلق المحرّم. كما نفهم خلفية الفقهاء المنتسبين إلى مدرسة أهل البيت (عليه السلام) القائلين بجواز أصل الاستنساخ، طالما هو لا يضرُّ بالمولود من ناحية التشوّه ونحوه؛ لأنّ الاستنساخ ليس إبداعاً، بل هو عبارة عن استفادة من تركيب لموجودات مخلوقة، كلّ ما هنالك بدل أن يحصل التركيب من ذكر وأنثى، فإنّه يحصل من نفس الذكر، أو من نفس الأنثى.

3- التوحيد في الصفات
بمعنى أنّ صفات الله تعالى الذاتية هي عين ذاته.

توضيح ذلك:
أ- تنقسم صفات الله إلى نوعين:
1- صفات ذاتية، وهي الصفات المأخوذة من نفس الذات كالحياة والعلم بحيث لا يصحّ سلبها عن الذات الإلهية مطلقاً، فلا يصحّ أن نقول بأيّ لحاظ: إنّ الله ليس حياً، أو إنّه تعالى ليس عالماً.

2- صفات فعلية، وهي الصفات المأخوذة من ملاحظة العلاقة بين الله تعالى ومخلوقاته مثل الخالقية والرازقية، بحيث يصحّ سلبها في بعض الحالات عن الذات الإلهيّة، فيصحّ أن نقول: إنّ الله لم يخلق أباً للنبي عيسى بن مريم (عليه السلام)، وإنّ الله تعالى لم يرزق فلاناً علماً واسعاً أو مالاً وفيراً.

ب- إنّ المقصود من التوحيد في الصفات هو كون الصفات الذاتية ليست زائدة على الذات الإلهية، بل هي عين عينها، فأنا لديّ ذات، ولديّ صفة علم، إلا أنّ العلم لديّ هو زائد على ذاتي؛ لأنّي حينما ولدت كانت ذاتي، ولم أكن عالماً، إذاً العلم صفة زائدة على الذات.

وهنا نسأل: هل عِلْمُ الله تعالى هو زائد على ذاته بحيث توجد ذات إلهية، ويوجد شيء إضافي عليها هو العلم الإلهي، كما هو حالي، أو إنّ هناك موجوداً واحداً نطلق عليه بأنه الله، وبأنّه العالم بحيث لا يكون العلم زائداً على الله، بل هو عين الله تعالى.

قالت الشيعة بالثاني، أي إنّ صفات الله الذاتية هي عين ذاته، بحيث لا يوجد ذات + صفات، بل يوجد موجود واحد ذاته هو العالم القادر الحيّ، فحياته عين علمه وعين قدرته.

والدليل على أنّ صفات الله تعالى عين ذاته هو:
إن لم تكن هذه الصفات هي عين ذاته فلها صورتان:
الأولى: إنّها داخل الذات وأجزاء لها، وهذا مستحيل؛ لأنّ معناه تركّب الذات الإلهية، وقد أثبتنا أنّ الله تعالى غير مركّب؛ لأنّه غني، والمركّب يحتاج إلى أجزائه.
الثانية: إنّها خارج الذات، ولهذه الصورة احتمالان:

1- أن تكون غير محتاجة إلى خالق، وهذا باطل؛ لأنّ معناه أنّ هناك العديد من واجبي الوجود، وهذا شرك واضح.

2- إنّها تكون محتاجة إلى خالق، يعني أنّ الذات الإلهية خلقتها، وهذا باطل؛ لأنّ معناه أنّ الذات الإلهية خلقت العلم، في حين أنّها لم تكن عالمة، فهي كانت فاقدة للعلم، وفاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه.

إذاً لا بدّ من الاعتقاد أنّ صفات الله الذاتية هي عين ذاته.

4- التوحيد في الأفعال
بمعنى أنّ فاعل كلّ شيء هو الله تعالى. فلا يوجد فاعل غيره، وقد أثبتنا ذلك عند الإجابة عن السؤال المتقدّم: هل الإنسان مسيَّر أو مخيّر؟ فكان الجواب الذي يوائم بين حرّية الإنسان واختياره، وبين كون جميع الأفعال منسوبة لله تعالى.

5- التوحيد في الربوبية
أثبتنا سابقاً أنّ الموجودات كلّها تحتاج إلى الله تعالى في أصل حدوثها ووجودها، وكذا في بقائها واستمرارها، بمعنى أنّها بعد وجودها لا تستقلّ عنه تعالى، بل هو الذي يتصرّف فيها بما يشاء، ويدبّر أمرها كما يريد، وهذا الأمر هو الذي يعبَّر عنه بالربوبيّة التي لها انعكاسات كثيرة في علاقة الله بالموجودات، فهو المحيي، وهو المميت، وهو الحافظ، وهو الرازق، وهو الآمر، وهو الناهي...، إلى آخره من أمور التدبير.

وهذه الربوبيّة تنقسم إلى نوعين:

أ- الربوبيّة التكوينية
وهي بمعنى تدبير أمور العالم، فالله تعالى هو وحده الربّ المدبّر لأمور جميع الموجودات، فهو ربّ العالمين.

وقد كانت الربوبيّة بهذا المعنى محوراً للصراع بين الأنبياء والمشركين الذين كانوا يشركون بالله في الربوبيّة التكوينية، مع اعتقاد جملة منهم بالتوحيد في الخالقية: "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ "8.

لكن مع ذلك كانوا يعتقدون بأنّ الأصنام استقلَّت عن الله بربوبيّة الكون وإرادته، لذا كانوا يعبدونها أرباباً مستقلّة من دون الله تعالى.

الربوبية المستقلة والتابعة
إنّ الإيمان بإدارةٍ وتدبيرٍ وربوبيةٍ تابعة لله تعالى في أصل وجودها، وفي استمرارها وبقائها لا يمسّ عقيدة التوحيد في الربوبيّة بأيّة شائبة، وليس في استعمال اللفظ عقدة حينما تقول: ربّ العمل، وربّ الأسرة، طالما أنّ المراد ليس الربوبيّة المستقلة.

وعليه فإنّ وصف الله تعالى لملائكته بأنّها "َالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا"9، لا يتنافى مع الاعتقاد بربوبيّة الله تعالى، لأنّها مدبِّرات غير مستقلّة، وكذا الأمر في كون ملك الموت مدبّراً في مجال قبض الأرواح، وجبرئيل في مقام الوحي، وميكائيل في مجال الرزق، وإسرافيل في مجال نفخ الصور، فإنّ كل ذلك لا ينافي عقيدة التوحيد في الربوبيّة وكذلك عند الحديث عن الأنبياء (عليه السلام) أو الأوصياء (عليه السلام) بأنّ لهم نوعاً من الولاية التي منحهم الله تعالى إياها في بعض التدابير التكوينية بشكل غير مستقل، فإنّها لا تضرّ بالتوحيد في الربوبيّة، كما في قوله تعالى عند حديثه عن آصف وصيّ سليمان (عليه السلام) بعد أن سأل (عليه السلام) الحاضرين عن القادر منهم على الإتيان بعرش بلقيس، فقال له آصف – كما ورد في القرآن الكريم-: " قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ "10.

ب- الربوبيّة التشريعية
وتعني تدبير شؤون الكائنات المختارة بسنّ التشريعات التي تهدف إلى إيصالها إلى كمالاتها بالاختيار لا بالقهر والاضطرار.

انطلاقاً من هذه الربوبيّة بعث الله أنبياءه، وأنزل رسالاته، ووضع أحكامه وقوانينه.

بناءً عليه فالتوحيد في الربوبيّة التشريعية يعني الاعتقاد بأنّه لا مشرِّع إلا الله تعالى.

6- الألوهية
إنّ كلمة الإله تعني المعبود، وعليه فالتوحيد في الألوهية تعني الاعتقاد أنّه لا يستحق العبادة إلا الله تعالى.

سماحة الشيخ د. أكرم بركات

1- الواسطي، علي بن محمد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق حسين الحسيني البيرجندي، ط1، دار الحديث، (لا،ت)، ص45.
2- سورة طه، الآية 49.
3- نفس المصدر، الآية 51.
4- سورة الأنبياء، الآية 22.
5- الشيرازي، صدر الدين، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ط3، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1981م، ص113.
6- سورة آل عمران، الآية 49.
7- سورة المائدة، الآية 110.
8- سورة العنكبوت، الآية 61.
9- سورة النازعات، الآية 5.
10- سورة النمل، الآية 40.

 

قراءة 1373 مرة