لا يختلف اثنان في أنّ السعي الحثيث يُعدّ من الاستراتيجيّات الأساسيّة في تدبير المعيشة. ويُعدّ هذا الأمر - بالنسبة للقوانين الحاكمة على وجود الإنسان - وسيلةً لبناء شخصيّته وترسيخها، وفي الوقت نفسه هو وازعٌ لاكتمال قدراته البدنيّة والعقليّة، ونضوج طاقاته الفطريّة والذاتيّة.
وتطرّق كتاب الله المجيد - بدوره - إلى العمل والسعي في مواطن عديدةٍ، وأكّد على أهمّيّة ذلك في نظام التكوين والتشريع، حيث جاء في إحدى آياته المباركة: ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإِنْسانَ فِي كَبَدٍ﴾([1]) .
وفي الحقيقة: إنّ الجهد الحثيث هو الذي يصقل شخصيّة الإنسان في الحياة الدنيا ويشذّبها. وحسب قانون الطبيعة، فإنّ الحركة والعمل والكبَد(المعاناة) هي أمورٌ ضروريّةٌ في حياة البشر، ولا بدّ لكلّ إنسانٍ من مكابدتها. لذا، يُعدّ الإنسان بذاته ظرفاً للحاجة، وبإمكانه أن يلبّي حاجاته ممّا هو موجودٌ في الطبيعة من ثرواتٍ. وبالتأكيد، فإنّ هذه الثروات ليست مُعدّة على طَبَقٍ من ذهب، بل إنّ استثمارها بحاجةٍ إلى جهدٍ وعملٍ دؤوبٍ، وهذه الضرورة فرضتها قوانين الطبيعة على الإنسان، من أجل أن يتسنّى له الخلاص من الفقر، والحرمان، وكلّ ما من شأنه الإخلال بنظم حياته الفرديّة والاجتماعيّة.
الأنبياء والأئمة عليهم السلام والعمل الدؤوب:
حثّ الله عزّ وجلّ عباده على العمل الدؤوب والجهد الحثيث، وكان ديدن أنبياء الله تعالى وأوليائه الصّالحين عليهم السلام على هذا النهج، حيث أشار الإمام موسى الكاظم عليه السلام إلى هذه الحقيقة. فعن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، عن أبيه، قال: رأيتُ أبا الحسن عليه السلام يعمل في أرضٍ له وقد استنقعت قدماه في العرَق، فقلت: جُعلت فداك، أين الرجال؟ فقال عليه السلام: "يا عَليُّ، قَد عَملَ بِاليدِ مَن هُو خيرٌ مِنّي في أِرضِهِ، ومِن أبي". فقلت: ومن هو؟ فقال: "رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وأَميرُ المؤمِنينَ عليه السلام، وآبائي كُلُّهُم كانوا قَد عَملُوا بأَيدِيهِم، وهُو مِن عَملِ النَّبييِّنَ والْمُرسَلينَ والأوصياءُ والصّالِحينَ"([2]) .
كما أكّد الإمام جعفر الصادق عليه السلام على ذلك، عندما أعرب عن حبِّه لمن يكسب من عرق جبينه، ويعمل تحت حرارة الشمس، لتأمين لقمة عيشه، فقد روي عن أبي عمرو الشيبانيّ أنّه قال: رأيتُ أبا عبد الله عليه السلام وبيده مسحاةٌ، وعليه إزارٌ غليظٌ يعمل في حائطٍ له، والعرقُ يتصابُّ عن ظهرهِ، فقلتُ: جُعلتُ فَداك، أعطني أكفِكَ. فقال عليه السلام لي: "إنِّي اُحبُّ أنْ يَتأذَّى الرّجُلُ بِحرِّ الشَّمسِ في طَلبِ المعيشَةِ"([3]) .
لذا، فإنّ الحياة الطيّبة الكريمة ستكون من نصيب المجتمع الإسلاميّ، متى ما اتّخذ أبناؤه العمل منهجاً لهم، لأنّ العمل شعارُ المؤمن، وجزءٌ من الإيمان([4]) .
وفي الواقع: إنّ العمل يصقل ذات الإنسان ويظهرها على حقيقتها، ولا ريب في أنّ المتخاذل عن العمل جاهلٌ بتعاليم الدين، لأنّ فحوى تعاليم ديننا تتجلّى في النشاط والعمل، وكلّ متديّنٍ يرى العمل كرامةً له. ويظهر ذلك في وصية الإمام جعفر الصادق عليه السلام لأحد أصحابه، حينما سأله كيف يَحفَظ كرامة نفسه، إذ أوصاه عليه السلام: أن يعتمد على نفسه، ويعمل لكسب رزقه. فقد روي عن علي بن عقبة قوله: قال أبو عبد الله عليه السلام لمولىً له: "يا عبدَ اللهِ، إحفظْ عِزَّكَ". قال: وما عزِّي! جُعلت فداك؟ قال عليه السلام: "غُدُوُّكَ إلى سُوقِكَ وإكرامُكَ نَفسَكَ". وقال عليه السلام لشخصٍ آخر: "مالي أراكَ تَركتَ غُدُوّكَ إلى عِزِّكَ؟!". قال: جنازةُ أردتُ أن أحضرها. قال عليه السلام: "فَلا تَدَعْ الرَّواحَ إلى عِزِّكَ"([5]).
وبالطبع، فإنّ العمل النزيه يُعدّ أمراً ضروريّاً لإصلاح حياة الفرد والمجتمع، ولا بدّ منه لحفظ المبادئ والقيم الأصيلة، ومن خلاله يتمُّ تأمين كلّ حاجةٍ في المجتمع.
لذا، فإنَّ تعاليم ديننا لا تجيز لنا ترك أعمالنا، ومدّ أيدينا للآخرين، طلباً للرزق، حتّى في أصعب الظروف.
روي عن زرارة: أنّ رجلاً أتى الإمام الصادق عليه السلام، فقال له: إنّي لا أُحسن أن أعمل عملاً بيدي، ولا أُحسن أن أتّجر، وأنا محارفٌ([6]) محتاجٌ! فقال له الإمام عليه السلام: "إعْمَلْ، فَاحمِلْ على رَأسِكَ، واسْتغنِ عَن النّاسِ، فإنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَد حَمَلَ حَجَراً عَلى عُنُقِهِ، فَوَضَعَهُ في حائطٍ مِن حيطانِهِ، وإنَّ الحجَرَ لَفِي مَكانِهِ ولا يُدرى كَمْ عُمقُهُ"([7]) .
تطوّر الإنسانية يكون بالعمل:
إنّ تطوّر شخصيّة الإنسان ورقيّ المجتمع مرهونان بالجهد والنشاط، فالمجتمع الذي لا وجود للعمل الحثيث فيه، والمتكاسل الذي لا عمل دؤوب له، لا يشهدان أيّ تطوّرٍ أو رقيٍّ. ومن هذا المنطلق، فإنّ ترك العمل يُعدّ من الأخطاء الفادحة التي تؤدّي إلى الكسل والخمول، وتحول دون نضوج شخصيّة الإنسان وانتعاش المجتمع. فذات يومٍ جاء تاجرٌ إلى الإمام الصادق عليه السلام وقال: إنّه وفّر مالاً كثيراً، ويريد ترك العمل، لأنّه ليس بحاجةٍ إليه. فنهره الإمام عليه السلام وأخبره بأنّ تفكيره هذا غير صائبٍ، فالإنسان الذي يترك العمل سوف لا يكون مفيداً لمجتمعه([8]) .
ويثبت لنا ممّا ذُكر من نصائح وإرشادات أنّ أئمّتنا عليهم السلام يريدون تحفيزنا على السّعي، والعمل الحثيث، وعدم الاكتفاء بالقليل، في مجال الإنتاج، وخدمة العائلة، والمجتمع، إذ إنّ العمل يجعل الحياة طيّبةً، وينعش الجسم والروح على حدٍّ سواء، حيث إنّ العمل والإنتاج يرسّخان دعائم المجتمع الإسلاميّ والعالميّ معاً، حتّى وإن كان الشخص بذاته ليس بحاجةٍ إليه.
فن التدبير في المعيشة - رؤية قرآنية روائية، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
([1]) البلد: 4.
([2]) الكليني، الكافي، م.س، ج5، كتاب المعيشة، باب ما يجب من الاقتداء بالأئمّة عليهم السلام، ح10، ص75-76.
([3]) الكليني، الكافي، م.س، ج5، كتاب المعيشة، باب ما يجب من الاقتداء بالأئمّة عليهم السلام، ح13، ص76.
([4]) الآمدي، أبو الفتح: غرر الحكم ودرر الكلم، ترتيب وتدقيق عبد الحسن دهيني، ط1، بيروت، دار الهادي، 1413هـ.ق/ 1992م، ح1507.
([5]) الطوسي، محمد بن الحسن: تهذيب الأحكام، ج7، كتاب التجارات، باب فضل التجارة...، ح12، ص4.
([6]) المحارف: المحروم, يطلب فلا يُرزق، وهو خلاف المبارك.
([7]) الكليني، الكافي، م.س، ج5، كتاب المعيشة، باب الحثّ على الطلب...، ح14، ص67-77.
([8]) انظر: الكليني، الكافي، م.س، ج5، كتاب المعيشة، باب فضل التجارة...، ح4، ص148, ح10-11، ص149.