ورد عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "أَلَا وإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ جَمَعَ حِزْبَه واسْتَجْلَبَ خَيْلَه ورَجِلَه، وإِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي، مَا لَبَّسْتُ عَلَى نَفْسِي ولَا لُبِّسَ عَلَيَّ. وايْمُ اللَّه، لأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُه لَا يَصْدُرُونَ عَنْه ولَا يَعُودُونَ إِلَيْه"[1].
يُشير أمير المؤمنين عليه السلام إلى أنّ الشّيطان هو الباعث لهم[2] على مخالفة الحقّ، والجامع لهم على الباطل، بوسوسته وإغرائه وتزيينه الباطل في قلوبِهم، وأنّ هؤلاء أطاعوه وأجابوا دعوته وشاركوه في الدعاء إلى الباطل، فصاروا حزبه، قال تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورً﴾[3]، أي استخفِ من استطعت منهم أن تستفزّه بدعائك إلى الفساد.
ثمّ أشار عليه السلام إلى كمال عقلِه واستعدادِه بقوله: "وإِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي". يريد أنّ البصيرة التي كانت معي في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم تتغيّر.
ثمّ أكّد كمال عقلِه بالإشارة إلى عدم انخداعِه بخُدع الشّيطان، وبتلبيسه الباطل بصورة الحقّ، كما يلبِس على ذوي البصائر الضّعيفة وأُولي العقول السخيفة، سواء كانت مخادعته بغير وساطة، وهو المشار إليه بقوله: "مَا لَبَّسْتُ عَلَى نَفْسِي"، أي لا يتلبّس على نفسي المطمئنّة ما تُلقيه إليها نفسي الأمّارة، أو بوساطة غيره، وهو المشار إليه بقوله: "ولَا لُبِّسَ عَلَيَّ"، أي لم يحصل التلبيس عليّ من الخارج من جنود إبليس وأتباعه الذين تلقّفوا عنه الشّبه، وصار في قوّتهم أن يُلبِسوا الحقّ صورة الباطل[4].
والنتيجة المحصّلة من كلامه عليه السلام هو أنّي معي بصيرتي التي أُبصر بها الحقّ والهداية، وأفضحُ الباطل والضلالة "ما لبَّست ولا لُبِّس عليّ"، ما دلّستُ على أحد، ولا استطاع أحدٌ أن يُدلّس عليّ بسبب البصيرة التي أمتلكها، فمن يمتلك هذه القوّة النورانيّة لا يَخدع ولا يُخدع. وهذا يؤكّد أهمّيّة البصيرة في ردّ الشبهات وعدم الوقوع بالفِتن والانجرار وراء القوى الظلاميّة.
من هو صاحب البصيرة عند الإمام عليّ عليه السلام؟
بيّن الإمام عليّ عليه السلام في خِطبة له صفات الغافلين. وفي مقارنة رائعة بين صفات الغافلين وصفات البصير الذي يُقابل الغافل، نستفيد الكثير من الصفات التي تحدّد من هو صاحب البصيرة عند أمير المؤمنين عليه السلام، حيث قال: "حَتَّى إِذَا كَشَفَ لَهُمْ عَنْ جَزَاءِ مَعْصِيَتِهِمْ واسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ جَلَابِيبِ غَفْلَتِهِمُ، اسْتَقْبَلُوا مُدْبِراً واسْتَدْبَرُوا مُقْبِلًا، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا أَدْرَكُوا مِنْ طَلِبَتِهِمْ ولَا بِمَا قَضَوْا مِنْ وَطَرِهِمْ. إِنِّي أُحَذِّرُكُمْ ونَفْسِي هَذِه الْمَنْزِلَةَ، فَلْيَنْتَفِعِ امْرُؤٌ بِنَفْسِه، فَإِنَّمَا الْبَصِيرُ مَنْ سَمِعَ فَتَفَكَّرَ، ونَظَرَ فَأَبْصَرَ، وانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ، ثُمَّ سَلَكَ جَدَداً وَاضِحاً[5]، يَتَجَنَّبُ فِيه الصَّرْعَةَ فِي الْمَهَاوِي والضَّلَالَ فِي الْمَغَاوِي، ولَا يُعِينُ عَلَى نَفْسِه الْغُوَاةَ بِتَعَسُّفٍ فِي حَقٍّ أَوْ تَحْرِيفٍ فِي نُطْقٍ أَوْ تَخَوُّفٍ مِنْ صِدْقٍ"[6].
أي بعد حصول العِلْم لديه وفهمه لِما رآه وسمِعَه، فإنّه يعمل بما عَلِم ويختار الطريق الواضحة في سَيْره ويتجنّب الطُرُق المظلِمة، أي لايتبَع هواه فيهوى، لأنّ اتّباع الهوى يُردي.
ولِفَهْم من هو الإنسان البصير، لابدّ من ملاحظة الأمور الآتية:
أوّلا: الإمام عليّ عليه السلام صدّر هذا الفصل من الخِطبة ببيان صفة الغافلين عن أحوال الآخرة، والمتوغّلين والمشمّرين في طَلَب الدنيا.
ثانياً: حذّر الإمام عليّ عليه السلام من خطورة الغفلة، وهي من أشدِّ الحُجُب المانعة من التوجُّه إلى الله تعالى وأشبه بغطاءٍ على بصيرة الإنسان المؤمن.
ثالثاً: "إِنِّي أُحَذِّرُكُمْ ونَفْسِي هَذِه الْمَنْزِلَةَ": أراد بها الحالة التي كان الموصوفون عليها من الغفلة والجهالة، وتشريك نفسه عليه السلام معهم في التحذير تطييباً لقلوب السامعين وتسكيناً لنفوسهم، ليكونوا إلى الانقياد والطاعة أقرب، وعن الإباء والنفرة أبعَد.
رابعاً: "فَلْيَنْتَفِعِ امْرُؤٌ بِنَفْسِه": بأن يصرِفها فيما صرفها فيه أولوا الأبصار والفِكر، ويوجّهها إلى ما وجّهها إليه أرباب العقول والنظَر، وإليه أشار بقوله: (فإنّما البصير)، "أي العارف بما يُصلِحُه ويفسِدُه والخبير المميّز بين ما يضرّه وينفعه"[7]، لأنّه لا ينتفع بنفسه إلَّا البصير.
ثم شرَع عليه السلام ببيان صفات البصير. فالبصير عند الإمام عليّ عليه السلام فيه الصفات الآتية:
الأوّل: ما ينفع المرء ويُصلحه
سَمِعَ فَتَفَكَّرَ: لا يكفي أن نستخدم أسماعنا كآلة مادّيّة، بل لا بدّ أن تقودنا هذه الالآت إلى التفكُّر الذي أمرَنا به القرآن الكريم في تضاعيف آياته الكريمة الذي يوصِلُنا إلى المعرفة.
ونَظَرَ فَأَبْصَرَ: أي استخدَم النظَر بطريقة صحيحة، فأوصلته إلى الإبصار، وبات يرى بعيْن حسّه وبصيرته، فيتوخّى المقاصد النافعة، فيُبصرها ويُدرك بعقله منها العِبَر.
وانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ: إنّ من استخدَم أدوات المعرفة بشكلٍ صحيح، فهو ينتفع بالعِبَر، وأصحاب البصيرة هم من يستفيدون من العِبَر.
سَلَكَ جَدَداً وَاضِحاً: إنّ من كانت صفاته ما تقدّم، فلن يمشي إلّا على أرضٍ صلْبة، وهو كناية عن المنهج المتّبَع، لأنّ أدوات المعرفة السابقة لا تكفي حتى تتشكّل لدينا الرؤية الصائبة والواضحة، إذ لا بدّ من منهج أو منظومة فكريّة شاملة نرجع إليها في التشخيص المــُـبْهم والمـُلْتَبس، وتحديد خياراتنا في ضوئِها.
يَتَجَنَّبُ فِيه الصَّرْعَةَ فِي الْمَهَاوِي والضَّلَالَ فِي الْمَغَاوِي: وهذه نتيجة طبيعيّة لـِمَـن كان على بصيرة من أمرِه، فهي تجنّبُه الصرعة، أي الوقوع في البليّة في المهوى. ومعنى كلامه "المهاوي".
مأخوذ من المثل السائر: "من سلَك الجدَد، أَمِن العثار"، ومعنى الجدَد: الأرض المطمئنّة المستوية، قال الهروىّ: "جعل العرب سلوك الجدَد مثلاً لترك التصدّي للمهالك والتعرّض للمتالف، لأنّ الإنسان إذا لم يسلك إلّا الجدَد، أمِن العثار. ويُضرب هذا المثل فى طَلَبِ العافية"[8].
الثاني: ما يضرّ المرء ويفسِدُه
ولَا يُعِينُ عَلَى نَفْسِه الْغُوَاةَ: جمع "غاوٍ"، وهو الضالّ عن طريق الهداية، أي لا يعينهم، باتّباع طريقهم، على ضدّ نفسه وهلاكها. الغواة هم الذين لا يرعوون عن الغيّ، وهو خِلاف الرُشْد فيما يتعلّق بالأمور الآتية:
بِتَعَسُّفٍ فِي حَقٍّ: "فينبغي مراعاة الناس وقدراتهم بما يتعلّق بهذه الدرجات، فإنّ حمله على غير أهله قد يوجب النفور ممّن يقوله ويأمر به. وقد يكون المراد من التعسّف في الحقّ، التقصير في العمل به لعدم القدرة على تحمّله، والضعف عن أدائه، فسيتدخل الغواة - وهم تاركو الحقّ - ذلك، فكأن قد أعانهم على نفسه"[9].
أَوْ تَحْرِيفٍ فِي نُطْقٍ: أي يحرّف الكَلِم عن مواضعه، ويَكذِب مداراةً لهم ومنازلة أذواقهم، كأَنْ يقبَل بتحريف الكتاب أو السُّنّة سواء كان تحريفاً لفظيّاً أو معنويّاً.
أَوْ تَخَوُّفٍ مِنْ صِدْقٍ: أي يتكلَّف الخوف من قول الصّدق، وإن لم يكن خائفاً في الواقع، وعَود ضرَر التّحريف والتّخوف على المحرّف والمتخوّف لاستلزامها مداهنة الغواة، وقد ذمّ الله أقواماً بترك الصّدق والجهاد في الحقّ بقوله: ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ﴾. "فاللَّازم على المرء أن لا تأخُذُه في الله لومةَ لائم، ولا يكون له من ردْع من خالَف الحقّ وخابَط الغيّ وزجَره من أوهانٍ ولا إيهان"[10].
الدنيا منتهى بَصَرْ الأعمى
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وإِنَّمَا الدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ الأَعْمَى، لَا يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً. والْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ، ويَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا، فَالْبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ، والأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ، والْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ، والأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ"[11].
إنّ الغرَض من كلام الإمام هو التنفير من الدّنيا، وتوبيخ من قصُرَ نظره إليها، فاستعار وصْف الأعمى، وهو المستعار منه، للجاهل، وهو المستعار له. وإنّ الجامع بين العمَى والجهل هو قصور الجاهل عن إدراك الحقّ، كقصور عادم البصر عن إدراك المـُبصرات، وأمّا المستعار منه - أعني معدوم البصر- فهو لا يُبصر أصلاً، وهو تذييل لِكَوْن الدّنيا منتهى بصره، وتوضيح وتفسير لها، والمقصود أنّ الجاهل لِكَوْن همّته مصروفة معطوفة إلى الدّنيا مقصورٌ نظرُه إليها غافلٌ عمّا عداها، غير ملتَفِت إلى أنّ وراءها الآخرة، وهى أوْلى بأن تُصرَف إليها الهِمم بما فيها ممّا تشتهيه الأنفُس وتلذّ الأعيُن من مزيد العوائِد والفوائِد والنِّعَم.
عمَى البصر وعمَى البصيرة
عمَى البصر: هو عمًى جزئيّ، يَفقد الإنسان فيه حاسّة النظَر، وقد تجد لديه قوّة في إحدى حواسِّه الأخرى، ومع ذلك فهو يُدرِك إصابته.
عمَى البصيرة: هو عمًى كلّيّ، يَفقد الإنسان فيه جميع حواسِّه دون أن يشعر، فالإصابة تكمن في مركز التحكُّم في الجسد، وهو القلب.
قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ في الجسد مُضغة، إذا صلُحَت صَلُح الجسد كلّه، وإذا فَسُدَت فَسُد الجسد كلّه، ألا وهي القلب"[12].
والمعنى: إنّ فساد القلب وميْله إلى الدنيا سيىؤدّي إلى فساد الأعضاء وعدم استخدامها فيما يرضي الله تعالى، وإذا صلُحَ القلب ومال إلى الحقّ، وصحّت الجوارح والأعضاء الظاهرة، صدرت منها الأعمال الصالحة.
إنّ معي لبصيرتي، دار المعارف الإسلامية الثقافية - بتصرّف
[1] نهج البلاغة، خُطب الإمام عليّ عليه السلام (تحقيق صالح)، مصدر سابق، الخطبة رقم 10 من خِطبة له عليه السلام يريد الشيطان أو يكّني به عن قوم، ص 54.
[2] المقصود بكلام أمير المؤمنين عليه السلام هم الناكثون.
[3] سورة الإسراء، الآية 64.
[4] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، المكتبة الإسلاميّة، إيران - طهران، 1400ه، ط4، ج3، ص 163.
[5] الجدَدَ - بفتحتين -: الأرض الصلبة المستوية التي يسهُل المشي فيها. ويتنكّب: عدَل وتجنّب. والغُواة - بالضم -: جمع غاوي اسم فاعل من غوى. وتعسّف في الحقّ أو القول: أخذه على غير هداية، أو حملَه على معنى لا تكون دلالته عليه ظاهرة.
[6] نهج البلاغة، خُطَب الإمام عليّ عليه السلام (تحقيق صالح)، مصدر سابق، الخطبة 15، صفات الغافلين، ص 214.
[7] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، مصدر سابق، ج9، ص 212.
[8] عليّ بن زيد البيهقيّ، معارِج نهج البلاغة، تحقيق محمّد تقي دانش پژوه، مكتبة آية الله العظمى المرعشيّ النجفيّ، قُم المقدّسة، 1409ه، ط1، ص 250.
[9] راجع: ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة، مركز النشر مكتب الاعلام الاسلامي - الحوزة العلميّة، إيران - قم، 1362 ش، ط1، ج3، ص 242.
[10] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، مصدر سابق، ج9، ص 214.
[11] نهج البلاغة، خُطَب الإمام عليّ عليه السلام، مصدر سابق، 132 ومن خِطبة له يَعِظ فيها ويَزْهَد في الدنيا، ص192.
[12] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقيّ، بحار الأنوار الجامعة لِدُرَر أخبار الأئمّة الأطهار، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج58، ص 23.