إذا ألقينا نظرة فاحصة على النصوص الإسلامية نجد أن الإسلام - في الوقت الذي يرى فيه أن أعلى درجات الإمامة أو القيادة ضرورية لكمال الإنسان والمجتمع البشري - يؤكد ضرورة القيادة السياسية على نحو مطلق في الظروف التي لا تتمهد فيها الأرضية للقيادة السياسية المطلوبة.
وبعبارة أخرى: مع أن الإسلام فرض على الجميع أن يهيئوا الأجواء المناسبة للقيادة الكفوءة والحكومة الصالحة بيد أنه لا يلغي ضرورة القيادة السياسية للمجتمع مهما كانت الأحوال، ولا يسمح للمسلمين أن يعيشوا حالة الفوضى، أو أن لا يشعروا بالمسؤولية حيال إقامة الحكومة وتكوين القيادة السياسية.
ضرورة القيادة السياسية
وإنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر...([1]). هذه هي كلمة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في جواب المارقين المنحرفين، عندما كانوا يزعقون بشعارهم المعروف: " لا حكم إلا لله" الذي يستند إلى الآية القرآنية الكريمة: (إن الحكم إلا لله)([2])
في ضوء الآيات التي تجعل الحكم حقا خاصا لله، أو تقصد الحكم التكويني - أي: إن الله يخلق في العالم كل ما يريد، وليس لأحد أو شئ أن يحول دون إرادته (يفعل الله ما يشاء) ([3]) و (يحكم ما يريد) ([4]) - أو تريد الحكم التشريعي...
نلاحظ أن التشريع والأمر إنما هو لذاته المقدسة وحده، ولا ينبغي لأحد أن يشرع قانونا في مقابل قانونه. ولا يحق لأحد - غير ذات الحق المقدسة - أن يصدر أمرا للآخرين.
ومن البديهي أن القوانين الحكومية المدونة على أساس حكم الله تكسب شرعيتها واعتبارها من القوانين الإلهية الكلية، وأن حكم القائد أو الإمام الذي فرض الله طاعته هو حكم الله نفسه.
وكان المارقون قد خالفوا أمير المؤمنين (عليه السلام) في حرب صفين بعد مكيدة التحكيم، بسبب غرورهم وجمودهم الفكري وجهلهم وفتن العدو المدروسة.
ثم أصبحوا - تدريجا - جماعة منظمة، وكيانا مناوئا متطرفا قويا ناهض حكومة الإمام (عليه السلام)، ورفعوا شعار "لا حكم إلا لله" ليسجلوا بزعمهم مؤاخذة على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) وقيادته، وشعارهم المذكور ذو جذر قرآني، لذلك لم يسع أحد إنكاره.
وعرض الإمام (عليه السلام) في سياق تأييده للشعار نقاطا مهمة حول الحكومة والقيادة السياسية من منظور الإسلام، وأبدى تقويما للشعارات المفرطة المتطرفة المطالبة بالحق في ظاهرها، المطروحة من قبل المتظاهرين بالروح الثورية في المجتمع، قال (عليه السلام): كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله، وإنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفئ، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر"([5])
وكان الإمام (عليه السلام) ذات يوم جالسا مع جماعة في المسجد، فدخل أحد الخوارج وصاح: لا حكم إلا لله، فقلق الحاضرون، وانتظروا ليروا ماذا يفعل أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولعل فيهم من ظن أن الإمام سيغضب ويعامل الرجل بعنف.
بيد أنهم رأوه قد أعاد بطمأنينة الشعار نفسه وعضده بآية قرآنية كريمة يؤكد فيها الله تعالى لنبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله) أن وعده تعالى في مقابلة أعداء الإسلام حق، وأن على النبي أن لا يستسلم لأذاهم، وأن لا يتضعضع وقاره وثباته في مواجهتهم.
(فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)([6]). ثم التفت (عليه السلام) إلى الناس وقال: " فما تدرون ما يقول هؤلاء؟ يقولون: لا إمارة. أيها الناس، إنه لا يصلحكم إلا أمير بر أو فاجر ".
وكان غريبا جدا على الناس أن يسمعوا عليا (عليه السلام) يذكر بحاجة المجتمع إلى القائد مطلقا حتى لو كان فاجرا، لذلك سألوه مندهشين: "هذا البر قد عرفناه، فما بال الفاجر؟!". فقال (عليه السلام): "يعمل المؤمن، ويملى للفاجر، ويبلغ الله الأجل، وتؤمن سبلكم، وتقوم أسواقكم، ويقسم فيئكم، ويجاهد عدوكم، ويؤخذ للضعيف من القوي"([7])نلاحظ أن الإمام (عليه السلام) يعلم أتباعه في هذا الكلام النفيس المهم عددا من القضايا.
القيادة في الإسلام - محمد الريشهري
([1]) نهج البلاغة : الخطبة 40
([2]) الأنعام : 57 ، يوسف : 40 و 67 ، وتدل آيات أخرى على هذا المعنى أيضا .
([3]) إبراهيم : 27 .
([4]) المائدة : 1
([5]) نهج البلاغة : الخطبة 40 .
([6]) الروم : 60 .
([7]) المصنف لابن أبي شيبة : 8 / 741 / 51 .