قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾[1]، وقال: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَان﴾[2].
البصيرة الإيمانيّة هي التي تُضيء للإنسان المؤمن طريقه وتُبصّره العثرات التي تمنعه من السَيْر على الصراط المستقيم. وإنّ عمل البصيرة في القلب، هو أشبه بالكاشف الضوئيّ الذي يستعمله الإنسان في الظُلْمة الحالِكة لكي يرى طريقه ولا يتعثّر في مَشْيِه. فالبصيرة هي ذلك النور الذي يقذفه الله تعالى في قلوب المؤمنين المخلصين، والتي لا تتعلّق قلوبهم إلّا بالله تعالى، فيفرّقون بها بين الحقّ والباطل ويرَوْن النور نوراً والظُلْمة ظُلْمة. البصيرة هي التي تكشف الأشياء على حقيقتها فيراها المؤمن كما هي، فيرى الدنيا من غير زينة وزُبرج، أي كما زيّنها الشيطان للغاويْن، أو كما زيّنها هوى النفس في الأنفُس الضعيفة.
وهناك عدّة عوامل تُسْهِم، مجتمعةً، في تكوين البصيرة والوعي لدى الإنسان، وهو ما سنطرحه في هذا الدرس.
مكوّنات البصيرة الإيمانيّة، الأصول الأساسيّة
1- أدوات المعرفة طريق إلى الله:
إنّ الإنسانَ يُولَدُ كصفحةٍ بيضاء خاليةً من أيّ معارف أو علوم، وإنّما يحمل في ذاته الاستعداد لتلقّي هذه المعارف والعلوم، وهي الفطرة، وذلك كما قال الله تعالى: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[3]. وعلى الإنسان أن يجعل هذه الحواسّ في مجال طاعة الله تعالى.
وقد بيّن القرآن الكريم أنّ تعطيل الحواسّ عن المعرفة الحقّة بالله تعالى يُلحِق الإنسان بالحيوانات، وربّما يكون شرّاً منها، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[4]، فهم لا ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سبباً للهداية، فشبّههم - سبحانه - بالأنعام التي لا تنتفع بهذه الحواسّ، بل هم أضلّ من الدواب، لأنّها قد تستجيب لراعيتها إذا دعاها، وإن لم تفقَه كلامه بخلاف هؤلاء، ولأنّها تفعل ما خُلقت له، إمّا بطبعها، وإمّا بتسخيرها، بخلاف الكافر أو الفاسق، فإنّه خُلِق ليعبد الله فكفَر وأشرَك، أو استخدم حواسّه في المعصية.
2- الاهتداء بهَدْي الثقَلين:
مع أهمّيّة أدوات المعرفة السابقة، فهي لا تكفي حتى تتشكّل لدينا الرؤية الصائبة والواضحة، إذ لا بدّ من منهج أو منظومة فكريّة شاملة نرجع إليها في تشخيص الأمور المـُبهمة والمـُلتَبِسة، وتحديد خياراتنا المصيريّة والحسّاسة على ضوئها. ولا بدّ أن يكون هذا المنهج غير قابل للخطأ، وإلّا لا يصحُّ التمسُّك والاهتداء به. ولا يتوفّر هذا المنهج إلّا في رسالات السماء ومناهج الأنبياء عليهم السلام، والتي أعظمها وأهمّها منهج النبيّ الأعظمصلى الله عليه وآله وسلم المتمثّل باتّباع الثقلَين، وهما القرآن والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والآل عليهم السلام.
وفي وصيّة الإمام الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم: "يا هِشَامُ، مَا بَعَثَ اللَّه أَنْبِيَاءَه ورُسُلَه إِلَى عِبَادِه إِلَّا لِيَعْقِلُوا عَنِ اللَّه، فَأَحْسَنُهُمُ اسْتِجَابَةً أَحْسَنُهُمْ مَعْرِفَةً، وأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللَّه أَحْسَنُهُمْ عَقْلاً، وأَكْمَلُهُمْ عَقْلاً أَرْفَعُهُمْ دَرَجَةً فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ. يَا هِشَامُ، إِنَّ لِلَّه عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ، حُجَّةً ظَاهِرَةً وحُجَّةً بَاطِنَةً، فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ والأَنْبِيَاءُ والأَئِمَّةُ عليهم السلام..."[5].
3- التجربة:
التجارب، سواء كانت شخصيّة عشتها بنفسك، أو قام بها غيرك، فهي معلّم ناجح ومفيد. والناجحون هم الذين استفادوا من تجاربهم الفاشلة والناجحة على حدٍّ سواء.
ولذا، وردت عدّة روايات عن الإمام عليّ عليه السلام تفيد أهمّيّة التجربة، وإنّها من المصادر التي تكوِّن المعرفة والوعي عند الشخص، وبالتالي البصيرة.
قال عليه السلام : "في التجارب علم مُستأنف"[6].
وعنه أيضاً: "التّجارِبُ علمٌ مُستفادٌ"[7]. وقال عليه السلام لابنهِ عليه السلام: "فَبادَرْتُك بِالأَدَبِ قَبْلأَنْ يَقْسوَ قلبُكَ وَيَشتغِلَ لُبُّكَ، لتَستَقْبِلَ بجِدِّ رأيِكَ من الأمرِ ما قَد كَفاكَ أهلُ التَّجارِبِ بُغيَتَهُ وتَجرِبَتَهُ، فتكونَ قد كُفِيتَ مَؤونَةَ الطَّلَبِ وعُوفِيتَ مِن عِلاجِ التَّجرِبَةِ"[8].
وقال عليه السلام: "مَن لَم يُجَرِّبِ الأُمورَ خُدِعَ، ومن صارع الحقّ صُرع"[9].
وقال عليه السلام: "مَن أحْكَمَ التَّجارِبَ سَلِمَ مِن المَعاطِبِ"[10].
وقال: "مَن غَنِيَ عَنِ التَّجارِبِ عَمِيَ عنِ العَواقِبِ"[11].
وقال: "رأيُ الرّجُلِ على قَدْرِ تَجرِبَتِهِ"[12].
4- توطيد العلاقة بالله تعالى (حبّ الله):
لا شكّ أنّ أدوات المعرفة من سَمْع وبصَرٍ وعقل، والمنهج الفكريّ والعمليّ الذي تمثّله العقيدة والشريعة والاهتداء بالثقَلين، والتجارب الإنسانيّة التي تمثّل حركة الإنسان في الحياة، كلّها تُسهم في صناعة الوعي والبصيرة، وتشييد أركانهما وتوطيدهما، لكنّ العلاقة الوطيدة مع الله عزّ وجلّ، سواء من خلال معرفته وحبّه وطاعته، أو من خلال اتّباع ما جاء به أنبياؤه، تفتح للبصيرة آفاقاً أوسع وأرحب، وهي من أهمّ الأمور في تشكيل البصيرة، ومن دونها لا تُحقَّق البصيرة، لأنّها إفاضة نورانيّة من الله وتُفاض على العبد حينما يوطّد علاقته بالله تعالى، فإذا تأمّلنا الآيات الكريمة الآتية:
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَ﴾[13]، والهداية إلى السُبُل بصيرة.
﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ﴾[14]، والتقوى والورع بصيرة.
﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾[15]، والإيمان بصيرة.
إنّ معي لبصيرتي، دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] سورة الحديد، الآية 28.
[2] سورة الأنفال، الآية 29.
[3] سورة النحل، الآية 78.
[4] سورة الأعراف، الآية 179.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 16.
[6] المصدر نفسه، ج8، ص 22.
[7] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحِكَم والمواعظ، مصدر سابق، ص 43.
[8] نهج البلاغة، خُطب الإمام عليّ عليه السلام (تحقيق صالح)، مصدر سابق، رقم31 ومن وصيّة له عليه السلام للحسن بن عليّ عليه السلام، كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفّين، ص 393.
[9] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص 420.
[10] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحِكَم والمواعظ، مصدر سابق، ص 431.
[11] المصدر نفسه، ص 461.
[12] المصدر نفسه، ص 269.
[13] سورة العنكبوت، الآية 69.
[14] سورة البقرة، الآية 282.
[15] سورة الكهف، الآية 13.