نتعرّض فيما يلي إلى عدّة نقاط هامّة، وهي: بيان مفهوم الحرّيّة ودائرتها في الإسلام، وهل هي مطلقة أم مقيّدة؟ وكذلك ما يتعلّق بالمبادئ والمقوّمات الّتي تقوم عليها حسب الثقافة الإسلاميّة.
أوّلاً: مفهوم الحرّيّة
يُقصد بالحرّيّة قدرة الإنسان على فعل الشيء أو تركه بإرادته الذاتيّة. وهي منحة إلهيّة للإنسان الذي حباه الله تعالى بكلّ المقوّمات الأخرى اللازمة خلال مسيرته الحياتيّة، والّتي تضمن له أداء دوره الرياديّ على الأرض في أحسن صورة.
والحرّيّة ليست شيئاً ثانويّاً في حياة الإنسان، بل حاجة ملحّة وضرورة ماسّة من ضروراته، باعتبارها تعبيراً حقيقياً عن إرادته وترجمة صادقة لأفكاره، فبدون الحرّيّة لا تتحقّق الإرادة، وعدم تحقيق الإرادة يعني تكبيل الإنسان ووأد كافّة طموحاته وتطلّعاته، وهو ما لا ينسجم أبداً والغايةَ من وجود هذا الكائن الإلهيّ والدور المناط به، وبدون الحرّيّة لا تتحقّق ذاتيّة الإنسان وكرامته وقدرته على تقرير مصيره، وبدونها أيضاً لا تتحقّق سعادته.
وقد عبّر الله تعالى عن الإنسان أسمى تعبير، من حيث حمل الرسالة والتمتّع بالحرّيّة والاختيار، من خلال تتويجه بالخلافة، فقد جعله مكمّل الوجود، وفوّض إليه جزءاً من خلافته، وجعله مظهراً لها، ولا بدّ له من العمل على أساسها. فالحرّيّة في عقيدتنا تكليف وفرض، لا بدّ من رعايته خلال تعامل الإنسان مع نفسه، وخلال تعامله مع الآخرين [1].
ثانياً: الحرّيّة مطلقة أم مقيدة؟
لا يعني إقرار الإسلام للحرّيّة أنّه أطلقها من القيود والضوابط؛ فبذلك تكون أقرب إلى الفوضى الّتي يثيرها الهوى والشهوة. وبما أنّ الإسلام ينظر إلى الإنسان على أنّه مدنيّ بطبعه، يعيش بين كثير من بني جنسه، فلم يقرّ لأحد بحرّيّة دون آخر، ولكنّه أعطى كلّ واحد منهم حرّيّته، سواء كان فرداً أو جماعة؛ ضمن قيود ضروريّة، تضمن حرّيّة الجميع، وتتمثّل الضوابط التي وضعها الإسلام في الآتي:
أ- ألّا تؤدّي حرّيّة الفرد أو الجماعة إلى تهديد سلامة النظام العامّ وتقويض أركانه.
ب- ألّا تفوّت حقوقاً أعظم منها، وذلك بالنظر إلى قيمتها في ذاتها ورتبتها ونتائجها.
ج - ألّا تؤدّي حرّيّته إلى الإضرار بحرّيّة الآخرين.
وبهذه القيود والضوابط، وازن الإسلام بين حرّيّة الفرد وحرّيّة الجماعة، وأعطى كلّاً منهما حقّه.
ثالثًا: مقوّمات الحرّيّة
تنطلق الحرّيّة من مجموعة من الثوابت والمبادئ، منها:
أ- مبدأ العبوديّة والخوف من الله
تنبع أهمّيّة العبادة من كونها الغاية الّتي خُلقنا لأجلها، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[2], وذمّ المستكبرين عنها بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[3]، ونعت أهل جنّته بالعبوديّة له، فقال سبحانه: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرً﴾[4], ونعت نبيّه محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم بالعبوديّة له في أكمل أحواله، فقال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْل﴾[5].
ويرى الشهيد محمّد باقر الصدر (رضوان الله عليه) أنّ الحرّيّة في المفهوم الإسلاميّ ثورة، وهي ليست ثورة على الأغلال والقيود بشكلها الظاهريّ فحسب، بل على جذورها النفسيّة والفكريّة، وبهذا كفِل الإسلام للإنسان أرقى أشكال الحرّيّة التي ذاقها على مرّ التاريخ وأسماها[6].
ودعا الإسلام إلى تربية النفس على الخوف من الله تعالى, فإنّ باعث على العمل والثقة بالنفس، وليس سمة سلبيّة تؤثّر على اختيار الإنسان وحرّيّته، بل هو عامل باعث على النشاط والحيويّة والحرّيّة، يقول الإمام الصادق عليه السلام: "خفِ الله كأنّك تراه، فإنْ كنت لا تراه، فإنّه يراك، فإنْ كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإنْ كنت تعلم أنّه يراك، ثمّ استترت عن المخلوقين بالمعاصي، وبرزت له بها، فقد جعلته في حدّ أهون الناظرين إليك"[7].
والخوف من الله تعالى من خصائص المتّقين وسماتهم، فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "الخشية من عذاب الله، شيمة المتّقين"[8].
ب- مبدأ قوة الإيمان بالله تعالى وثباته
الإيمان بالله أمرٌ قابل للزيادة والنقصان، وخاضعٌ لجملة من العوامل الّتي تؤثّر فيه، وفيما يأتي عرض لجملة من الأساليب الّتي من شأنها تقوية الإيمان بالله وتعميقه:
1- الاعتزاز الدائم بالله تعالى
قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[9], وقال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾[10]. فالاعتزاز بالإيمان والانتساب إلى الإسلام ينبغي أن يشكّل شعوراً مرافقاً للمؤمن أينما كان.
2- التدبّر في القرآن
فهو يتضمّن المبادئ العالية لتربية الإنسان وارتباطه بالله، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[11].
3- ممارسة الشعائر الإسلاميّة
فهي غذاء المؤمن الذي ينمّي فيه قوّة الإيمان، ومن مصاديقها: الصلاة، الصوم، الإنفاق، الحجّ، قال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾[12].
4- الذكر
قال تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[13], وقال تعالى: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرً﴾[14].
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "من أشدّ ما فرض الله على خلقه، ذكر الله كثيراً"[15].
5- تذكّر الموت والبرزخ ومراحل الحياة الآخرة
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "اذكروا هادم اللذّات"[16].
وعن الإمام عليّ عليه السلام في كتابه إلى محمّد بن أبي بكر، قال: "وكفى بالموت واعظاً"[17].
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "أكثروا ذكر الموت؛ فإنّه هادم اللذّات..."[18].
6- الشعور بالأمل الدائم وحتميّة الانتصار
فالصراع الدائر بين الحقّ والباطل، ومعاناة الناس من الباطل وأهله، هما نوع من التغيير الاجتماعيّ والتمهيد لتحقّق وعد الله بالنصر والتمكين، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[19], وقال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[20].
ج - مخالفة الأهواء ومحاسبة النفس
لكلّ إنسان أهواؤه المتعلّقة بالمال، الأكل والشرب، الجاه والمركز... والهدف النهائيّ الذي يطمح إليه المؤمن هو إلغاء هذه الأهواء، والتطهّر منها تطهيراً كاملاً.
والمهمّ هو إضعاف تأثير هذه الأهواء على السلوك، وإحكام السيطرة عليها، وهذا ما ينتج من مجموعة عوامل، أهمّها مخالفة الهوى، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾[21].
ولا بدّ من مراعاة أمور أخرى في هذا المجال، مثل الصدقة، والإنفاق السرّيّ، وصون اللسان عن الكذب، والغيبة، وأن تكون قاعدته الصمت إلّا في موارد الحجّة والضرورة، وأن يتعلَّم الصوم المستحبّ، فهو ينمّي الإرادة، ويصعّد من ملكة الصبر.
وعن الإمام الرضا عليه السلام، قال: "ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه، وتاب إليه"[22].
د- الزهد بالدنيا وعدم الخضوع للشهوات
يشير أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا المعنى قائلاً: "مَنْ أيقن اَنَّهُ يُفَارِقُ الأحباب وَيَسْكُنُ التُّرَابَ وَيُوَاجِهُ الْحِسَابَ وَيَسْتَغْنِي عَمَّا خَلَّفَ، ويَفْتَقِرُ إلى مَا قَدَّمَ كَانَ حَرِيّاً بِقَصْرِ الأمل وَطُولِ الْعَمَلِ"[23].
ويقول سلمان المحمّديّ: "ثَلاَثٌ أعجبتني حَتَّى أضحكتني: مُؤَمِّلُ الدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلِبُهُ، وَغَافِلٌ لَيْسَ بَمَغْفُول عَنْهُ، وَضَاحِكٌ بملء فِيهِ، لاَ يَدْرِي أساخط رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ أم رَاضٍ عَنْهُ"[24].
فيجب التفكّر في اهتزاز الدنيا وتغيّرها الدائم، وفي أنّ الحرص على جمع الأموال والثروات لتحقيق الآمال والتمنّيات في الدنيا لا يجلب السعادة أبداً، بل يزيد الشقاء والمحنة، وأنّ أفضل الطرق للوصول، هو ما ورد في الحديث النبويّ: "كن في الدنيا كأنك غريب وعابر سبيل، واعدد نفسك في الموتى، وإذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من صِحَّتِكَ لِسُقْمِكَ، ومن شبابك لهرمك، ومن حياتك لوفاتك، فَإنّكَ لاَ تَدْرِي مَا اسْمُكَ غَداً"[25].
الإنسان والمجتمع، دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] الشهيد مطهري، الحرّيّة، ص39.
[2] سورة الذاريات، الآية 56.
[3] سورة غافر، الآية 60.
[4] سورة الإنسان، الآية 6.
[5] سورة الإسراء، الآية 1.
[6] من مقال للشهيد الصدر 1404ه، الأضواء.
[7] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج73، ص21.
[8] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص53.
[9] سورة آل عمران، الآية 139.
[10] سورة المنافقون، الآية 8.
[11] سورة الإسراء، الآية 9.
[12] سورة فاطر، الآية 10.
[13] سورة الرعد، الآية 28.
[14] سورة آل عمران، الآية 41.
[15] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص80.
[16] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج6، ص133.
[17] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص28.
[18] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج2، ص437.
[19] سورة النور، الآية 55.
[20] سورة الروم، الآية 47.
[21] سورة النازعات، الآيتان 40-41.
[22] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص453.
[23] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج70، ص167.
[24] الفيض الكاشانيّ، المولى محمّد محسن، المحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء، صحّحه وعلّق عليه علي أكبر الغفاري، دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرِّسين حوزه علميّه قم، إيران - قم، لا.ت، ط2، ج8، ص246.
[25] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص181.