إنّ طلب الهداية إلىٰ الصراط المستقيم وعدم الكون مع المغضوب عليهم والضالّين لا يعني أنّ هناك ثلاثة طرق في نظام الوجود احدها مستقيم والآخران منحرفان، بل يوجد طريق واحد يسلكه المهتدون بنحو مستقيم، وأمّا الآخرون فهم ينحرفون عن نفس ذلك الطريق ويجعلونه معوجّاً: ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغَونَهَا عِوَج﴾[1]. إذن فالإنحراف ليس طريقاً مستقلاًّ بذاته، والصراط المستقيم هو الطريق الوحيد الّذي هو علىٰ شكل جسر ممدود فوق جهنّم أو ممرّ يعبر من خلال نار جهنّم والناس مكلّفون بأنْ لايجعلوه عِوَجاً، والمغضوب عليهم والضالّون جعلوه معوّجاً وحرفوه عن استقامته، لا انّ هناك طريقاً معوجّاً والمجرمون سلكوا ذلك الطريق المعوجّ.
ولو لم يكن موجود مكلّف ومختار كالإنسان، لما كان هناك ضلالة وغضب أيضاً. والإنسان وحده الّذي يحرف الطريق ويتّخذه عِوَجاً وإلاّ فإنّ جميع الموجودات سائرة في الصراط المستقيم وفي حال عبادة دائمة وتسبيح مستمرّ لله: ﴿وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم﴾[2]، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَه﴾[3]، ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُون﴾.[4] إذن ففي نظام الكون لايوجد من يعصي ويسير في طريق الإنحراف سوىٰ المكلّف المختار كالإنسان.
والله سبحانه لم يخلق طريقاً مُعوجّاً في جميع عوالم الوجود، والقرآن الكريم يبيّن اعوجاج الناس وانحرافهم في الدنيا فيقول: ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَج﴾.[5]
فهٰؤلاء بسبب حبّ الدنيا فهم يفضّلونها علىٰ الحياة الخالدة في الآخرة ويمنعون الآخرين أيضاً ويجعلون طريق الله المستقيم معوجّاً بمعنىٰ انّهم يخالفون الصراط التشريعيّ الّذي هو الدين، لا انّهم يسلكون طريقاً معوجّاً موجوداً من قبل. إذن لم يخلق في عالم الوجود طريق معوجّ.
وحول مجموع الدين والقرآن يقول أيضاً: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَج﴾[6]، فلايوجد أيّ اعوجاج في كتاب الله الّذي يمثّل مجموع الدين.
وأخيراً في يوم القيامة عندما تظهر حقيقة القرآن ويأتي تأويلُه: ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُه﴾[7] فلا مجال حينئذٍ للاعوجاج والإنحراف. ويُسأل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) عن مصير الجبال في القيامة فيُجيب: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ٭ فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَعِوَجَ لَه﴾[8]. أي انّ الله يجعلها في ساهرة القيامة صحراء قاحلة ومستوية ليس فيها نبات ولا جبل ولا تل ولا نجد ولا غور وفي ذلك الموقف ينادي المنادي بصيحة الحقّ الّتي لا عِوَج لها.
إذن فليس هناك عِوَج لا في الدنيا ولا في الدين ولا في القيامة، وانّه الإنسان الّذي يحرفُ بيده الطريق المستقيم ويجعله عوجاً ولذلك فإنّ عاقبة أصحاب جهنّم هو الهُويّ والسقوط عن الصراط: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُون﴾.[9]
وعليه فإنّ النسبة بين (سبيل الغيّ) والصراط المستقيم ليست هي نسبة التّضاد بل هي نسبة تقابل العدم والملكة، أي أنّ أحدهما وجود الصراط والآخر عدمه، لا أنّ أحدهما الصراط والآخر هو طريق غير الصراط المستقيم.
تنويه: كما اتّضح من خلال التفسير أنّ جملة ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّين﴾ هي لأجل بيان بعض الصفات السلبيّة للمُنعَم عليهم وأنّ معناها هو: أنّ الّذين أنعمت عليهم لا مغضوب عليهم ولا هم ضالّون، لا أنّ هذه الجملة قيد للصراط، لأنّ معنىٰ كلمة الصراط إمّا الطريق المستقيم كما ذكر الراغب في المفردات، أو لأنّها ذكرت في الجملة السابقة بصفة المستقيم ثمّ ذكرت مرّة اُخرىٰ مع الألف واللام فالمقصود منها إذاً هو خصوص الصراط المستقيم.
وعلىٰ كلّ تقدير فإنّ المقصود من الصراط هو الطريق المستقيم خاصّة، وأنّ الطريق المستقيم ليس فيه سالك غير المنعَم عليهم، أي لا يمكن أن يكون للمغضوب عليه أو الضالّ صراط مستقيم حتّىٰ يكون المقصود من طلب المصلّي من الله في قوله ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾ هو الصراط المستقيم للجماعة الاُولىٰ أي المنعَم عليهم لا الصراط المستقيم للمغضوب عليهم والضالّين، فضلاً عن أنّ الضلالة لا تجتمع مع التمتّع بالصراط المستقيم. ولهذا ذكر بعض قدماء المفسّرين أنّ ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّين﴾ تنزيه ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم﴾[10]، وهناك شاهد لفظيّ يؤيّد هذا المعنىٰ وهو كون كلمة «غير» مجرورة، وإن كان البعض قرأها بالنصب. ومن الواضح أنّ المُنعَم عليه لايكون أبداً ضالاًّ أو مغضوباً عليه، لكنّ كلمة غير في مثل هذه الموارد في ضمن تفهيمها معنىٰ المغايرة فإنّها تتضمّن تأكيد الموضوع السابق كما في قوله تعالىٰ: ﴿يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ﴾[11]، ﴿يَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ﴾[12]، ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِين﴾[13]، لأنّ قتل الأنبياء باطل قطعاً والمحصن المراعي للعفّة غير مسافح ولا زانٍ بالتأكيد، وعليه فإنّ استعمال كلمة «غير» في مثل هذه الموارد هو لأجل تأكيد المضمون السابق، مضافاً إلىٰ أنّه يمكن أن يقصد بها طلب استمرار النعمة المعنويّة وعدم تبدّلها إلىٰ نقمة وغضب وضلالة.
والمقصود هو انّ القرآن الكريم دأب في تحليل الصفات الكماليّة لأولياء الله علىٰ أن يذكر تارة صفاتهم الإيجابيّة، كما جاء في سورة المؤمنون (الآيات 1 ـ 9) حول صفات الكمال الوجوديّة للمؤمنين وما جاء في سورة المعارج (الآيات 22 ـ 35) في التذكير بالصفات الإيجابيّة للمصلّين الصادقين، وتارة يجمع بين صفاتهم الإيجابيّة والسلبيّة كما جاء في سورة الفرقان (الآيات 63 ـ 74)، الّتي سيق بعضها لبيان الصفات الإيجابيّة لعباد الرحمٰن المخلصين وسيق البعض الآخر لبيان صفاتهم السلبيّة، وظاهر القسم الأخير من سورة الفاتحة أنّه أيضاً تلفيق بين الصفات الإيجابيّة والسلبيّة لسالكي الصراط المستقيم.
آية الله الشيخ جوادي آملي – بتصرّف يسير
[1] . سورة الأعراف، الآية 45.
[2] . سورة الاسراء، الآية 44.
[3] . سورة النور، الآية 41. تعبير (ألم ترَ) في مثل هذه الآيات يدلّ علىٰ انّ الإنسان لو أزاح الستار قليلاً لرأىٰ الحقائق بوضوح.
[4] . سورة الأنعام، الآية 38.
[5] . سورة ابراهيم، الآية 3.
[6] . سورة الكهف، الآية 1.
[7] . سورة الأعراف، الآية 53.
[8] . سورة طه، الآيات 105 ـ 108.
[9] . سورة المؤمنون، الآية 74.
[10] . تفسير ابن العربي، ج1، ص31.
[11] . سورة البقرة، الآية 61.
[12] . سورة آل عمران، الآية 112.
[13] . سورة النساء، الآية 24.