العولمة والحرب الناعمة

قيم هذا المقال
(1 Vote)
العولمة والحرب الناعمة

تعتبر مجموعة ثانية من الباحثين أنّ العولمة مترادفة مع الحرب الناعمة. وهي من المفاهيم التي أثّرت على كافّة المجالات الاجتماعيّة في عقد الثمانينات تقريبًا. وقد قُدّمت تعاريف وتعابير مختلفة حول هذا المفهوم وتشكّلت الكثير من الآراء والنظريّات من قِبل علماء الاجتماع والثقافة والسياسة والعلاقات الدوليّة. حيث ركّزت كلّ مجموعةٍ من هؤلاء على جانبٍ من جوانب عمليّة العولمة وتناولت خلفيّاتها، أبعادها، آثارها ونتائجها.

 

وعلى هذا الصعيد، يعرّف غيدنز العولمة بأنّها ليست سوى نشر الحداثة والثقافة الديمقراطيّة – الليبراليّة. كذلك يعتبر ماركس وانغلز أنّ إدراك تاريخ العولمة وبداية هذه العمليّة يستلزم إدراك ومعرفة تاريخ الرأسماليّة، لأنّ ديدن النظام الرأسمالي الدائم، برأيهما، هو العمل على توحيد النسيج الاقتصاديّ والثقافيّ العالميّ[1].

 

إذن، وبالالتفات إلى هذا الاتّجاه، يجب اعتبار العولمة توأمًا لـ "الرأسماليّة"، "التغرّب" و"الاتّحاد" و"توحيد المعلومات والاعتقادات"، وفي النهاية "أسلوب الحياة المشترك". ويعتقد هؤلاء الباحثون أنّ ظاهرة العولمة تُعتبر تهديدًا بالنسبة للدول الضعيفة واللاعبين المنفعلين على الساحة الدوليّة. فهذه الظاهرة نوعٌ من السلطة الجديدة. وهكذا يُنظر إلى الدول التي تتمتّع بقوّة ناعمة عالية، على أنّها "تهديدًا" للدول المنافسة لها. كما أنّه من وجهة نظر "جوزيف ناي" المنظّر للحرب الناعمة، تستطيع الدولة الواجدة لثلاثة أنواع من الجاذبية على صعيد "الثقافة" و"الفكر السياسيّ" و"السياسة الخارجيّة" التأثير في ثقافة وسياسات ونماذج اجتماعيّة وسياسيّة للدول الأخرى، وأن تفرض إرادتها بشكلٍ غير مباشر عليها. بناءً على ما تقدّم، العولمة عبارة عن عمليّة مخطّطٌ لها، مفروضة لأجل إعادة بناء المجتمعات على المستوى الدوليّ؛ وهي نظامٌ يهدف إلى تبليغ وفرض الإيديولوجيا النيوليبراليّة (الليبرالية الجديدة)، الرأسمالية الغربيّة وفي صدد إشاعة نموذج الحياة الغربيّة وبالخصوص الأمريكيّة.

 

على هذا الأساس، يعتقد هؤلاء الباحثون أنّ العولمة مشروعٌ مخطّطٌ له مسبقًا من قِبل مراكز القدرة بهدف فرض نموذج سلوكيّ معيّن، شموليّ وذو اتّجاهٍ واحد، ويؤدّي إلى سيطرة الثقافة والقيّم الغربيّة وجعل الآخرين في حالة انفعالٍ. كما وأنّ للعولمة آثارٌ ونتائج عدّة من جملتها إنهيار الدولة - الشعب، تحوّل النموذج الحكوميّ والسلوك السياسيّ، المخاطرة بالهويّات القوميّة- الدينيّة، تسلّط النظام الليبراليّ - الديمقراطيّ، ظهور وانتشار ثقافة عالميّة واحدة[2].

 

انطلاقًا من هذا الاتّجاه، يمكن القول إنّ عمليّة ومفهوم العولمة، بصفتها أسلوبًا للسيطرة ومترافقة مع ماهيّة عولمة الثقافة ونموذجًا سلوكيًّا لليبراليّة الديمقراطيّة، فإنّها بلا شكّ تتطابق مع ماهيّة الحرب الناعمة، وتشمل كذلك كافّة الأبعاد السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة وتُقلّل من سعة قوّة وميزان فعاليّة ومشروعيّة واعتبار الدول.

 

وهناك من يعتقد من الباحثين أنّ وظيفة الثورات الملوّنة مرادفة لوظيفة الحرب الناعمة. بدون أدنى شكّ، إنّ "الثورات المخمليّة" أو الثورات الملوّنة هي أحد أساليب الإلغاء التي تتّبعها الحرب الناعمة وهي تشمل نوعًا من تحوّل وانتقال القدرة بالترافق مع عصيان مدنيّ ومقاومة سلبيّة. والمسألة المهمّة التي يجب أن نلتفت إليها ترتبط بالسعي في تبديل الثورات المخمليّة إلى نموذجٍ لتغيير البنى السياسيّة في الدول المخالفة للغرب وخصوصًا أمريكا. وهذا ما نراه في نوع التحوّل والتغيير، إذ إنّ ما يُدعى بالثورات الملوّنة تشترك في الأسباب وأشكال التحوّل. فقد انتصرت جميعها، ما عدا قرقيزستان، بواسطة تظاهرات الشارع دون اللجوء إلى استخدام العنف، وشعاراتها كانت المطالبة بالديمقراطيّة والليبراليّة، وكان ثقل تحركّاتها أثناء إجراء الإنتخابات حيث كان يُشاع بوجود تزويرٍ فيها وضرورة إبطالها وإعادتها تحت إشراف مشرفين دوليّين. لذلك نعتبر أنّه من الصحيح النظر إلى الثورات الملوّنة بصفتها نوعًا من الحرب الناعمة، مثلها في ذلك كمثل نظريّة عولمة الثقافة التي تسعى إلى التقليل من قدرة، مستوى الفعاليّة، مشروعيّة وموثوقيّة الحكومة وإثارة الأزمات بوجه النموذج السياسيّ الموجود والنظام المستقرّ فعليًّا. لكن من وجهة النظر هذه، تقتصر الحرب الناعمة على الحرب السياسيّة الناعمة عبر تنظيم حركات المعارضة في السياق المدنّي مثل الإنتخابات. وهذا الأمر، لا يجعل الحرب الناعمة تشمل كافّة الأبعاد وبالخصوص البُعد الثقافيّ لها والذي يترافق مع تحوّلات تدريجيّة[3].

 

ويُلاحظ في العقود الأخيرة ظهور عدّة خصائص مشتركة في بنية نظام القدرة وهي كالتالي:

1- ضرورة تجديد النظر في الأسس التقليديّة لعلاقات الدولة والدراسات البحثيّة الأمنية.

2- تُعتبر الثقافة الركيزة الأساسيّة للتحوّلات السياسيّة والدوليّة. وقد أصبحت البيئة السياسيّة للنظام الدولّي ثقافيّة، يرافقها نوعًا من الوحدة من جهة، والتنوّع من جهةٍ أخرى.

3- لقد ظهر في عصرنا الحاضر لاعبون جدد ذوي هويّة ثقافيّة وهم يؤثّرون على النظام الدوليّ بحيث إنّ إدارتهم متفاوتة بالنسبة للبنى السابقة.

4- يعتبر التخطيط الناعم، وبعبارة أخرى التثقيف، مؤشّرًا للأفكار الجديدة ويلعب دورًا أساسيًّا في التحوّلات الاجتماعيّة.

5- تلعب القوّة الناعمة في الاتّجاهات الجديدة دورًا مصيريًّا في تشكّل العالم الحاضر والمستقبل.

6- تتّفق كافّة الآراء والنظريّات على دخول العالم في مرحلة جديدة، رغم اختلافها في تفاصيل وخصوصيّات هذه المرحلة. لكن تعتبر شبكة العلاقات وعولمة المعلومات تحت ما يُسمّى بعولمة الثقافة أو الاستعمار ما بعد الحديث، هو الأكثر تطابقًا مع مفهوم الحرب الناعمة وأبعادها المختلفة.

 

ونرى اليوم أنّ استراتيجيّة المواجهة ومحوريّة العنف المتمركزة حول الإجراءات العسكريّة في النظام الدوليّ، قد حلّت مكانها استراتيجيّة الحرب الناعمة والقوّة الناعمة.

 

وقد تمّ نشر هذه الاستراتيجيّة من قِبل مراكز الدراسات والمؤسّسات التابعة للمنظّمات الغربيّة، وروّجت لها مؤسّساتٍ مثل لجنة الخطر الحالي[4]، الهبة الوطنيّة للديمقراطيّة[5]، مؤسسة هوفر[6] ومنظمة الدفاع عن الديمقراطيات[7]، [8]. ويعتقد المنظّرون الأميركيّون المقتنعون باعتماد الحرب الناعمة ضدّ الجمهورية الإسلاميّة أنّ أيّ نوع من الإجراء العنفيّ ضدّ إيران (خصوصًا الإجراء العسكريّ) لن تكون نتيجته سوى تعميق بغض وكره الإيرانيّين لأمريكا أكثر فأكثر وإطالة أمده لسنواتٍ أطول. فاللجوء إلى إجراءات عنفيّة يمكن أن يعيق وصول دولةٍ تميل إلى أمريكا في هذا البلد. فضلًا عن ذلك، إنّ استخدام القوّة العسكريّة ضدّ إيران، سيزيد من اللااستقرار واللاأمن في الشرق الأوسط. وتعتقد هذه المجموعة أنّ إيران تتمتّع بقابليّة عالية لتغيير النظام السياسيّ فيها بأساليب غير عنفيّة، وذلك بسبب وجود سابقة ديمقراطيّة فيها ووجود مؤسّسات شعبيّة وكذلك قدرات فعليّة لأجل القيام بتحرّكات شعبيّة وغير رسميّة. وفي حال نجحت عمليّات الحرب الناعمة في الإطاحة بالجمهوريّة الإسلاميّة، لن يترافق ذلك مع الآثار والنتائج الناشئة عن أساليب الاتّجاه التصادميّ (الحرب الصلبة)[9]. كما يعتقد الكثير من المنظّرين والسياسيّين الغربيّين أنّ الحلّ العسكريّ الوقائيّ في أفغانستان، العراق ولبنان كانت غير فعّالة على الإطلاق[10].

 

وهناك الكثير من النماذج حول استخدام الحرب الناعمة طوال التاريخ وخصوصًا ضدّ الثورة الإسلاميّة في العقدين الأخيرين. وما الحماية المعلنة للأصوات المخالفة لنظام الجمهوريّة الإسلاميّة من قِبل أعلى مستويات مراكز القرار في أمريكا، التشويه والإساءة لصورة الجمهوريّة الإسلاميّة في الخارج وعبر طرقٍ متنوّعة، محاولة إعطاء المشروعيّة والإنتشار والتمكين للمؤسّسات غير الرسميّة الحاضرة في إيران والمعارضة للنظام، التدخّل الواسع في الأمور الداخليّة لإيران في مجالات الإنتخابات وحقوق الإنسان والمرأة ووسائل الإعلام والمذاهب، تبليغ وترويج وجود ثنائيّة الحكم في إيران، وتفعيل وحماية شبكات وسائل الإعلام المعارضة، إلّا جزء من وثيقة الأمن القوميّ الأمريكيّ في سنة 2006[11]. ويكشف مجرّد التأمّل في أهداف ومضمون وسائل الإعلام الإيرانيّة الفارسيّة الأمريكيّة وسائر الدول الغربيّة أنّهم في صدد تهديد: الثقافة، العلاقات والمؤسّسات الاجتماعيّة، الشعور بالانتماء والانسجام الوطنيّ، الوحدة السياسيّة والمذهبيّة وغير ذلك عبر استخدام أوّليّات علوم نفسيّة واجتماعيّة، وبالتالي تهيئة أرضيّة لـ"تغيير السلوك" و"الانهيار من الداخل"[12].

 

ويشهد تاريخ الثورة منذ بدايتها ولغاية الآن أنّ الدول الاستكباريّة الغربيّة قد جرّبت في العقد الأوّل كافّة أشكال الإطاحة الصلبة من جملتها الإنتفاضة، الإنقلاب العسكريّ والحرب العسكريّة. وصحيحٌ أنّه في مسار الإطاحة والمواجهة الصلبة قد فُقد الكثير من الطاقة والموارد البشريّة الماديّة والمعنويّة، ولكنّ صمود ومقاومة الشعب الإيرانيّ بقيادة الإمام رضوان الله عليه قد أوصل القوى المستكبرة إلى الواقع القائل أنّ الخيار الصلب والعسكريّ لا يستطيع أن يكون فعّالًا في مقابل ايمان واعتقاد الناس، بل بالعكس إنّ هذا الأمر قد وفّر أسباب اتّحاد وتضامن أكثر للشعب الإيرانيّ، وزاد من نظرة الشعب التشاؤميّة وبغضه للغرب والدول الغربيّة. وهكذا، اضطرت هذه القوى إلى الاعتراف بانهزامها في استراتيجيّة المواجهة الصلبة مع نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. بعد ذلك، تابعوا تحقيق أهدافهم باعتماد مقاربة جديدة وفي قالب استفادة من أساليب ناعمة. وهو أمرٌ عبّر عنه سماحة قائد الثورة الإسلاميّة منذ بداية السبعينيّات (منذ عشرين سنة) بتعابير ومفرداتٍ مختلفة مثل: الغزو الثقافيّ، الناتو الثقافيّ والإغارة الثقافيّة، وأخيرًا حذّر منها تحت عنوان الحرب الناعمة، ودعا مسؤولي النظام ليفكّروا بطرق مواجهتها. وهناك الكثير من الشواهد التي تكشف تزايد نطاق وشدّة حرب العالم الغربيّ الناعمة في ثلاثة مجالات: المجال الاقتصاديّ، السياسيّ والثقافيّ منذ بداية العقد الرابع لانتصار الثورة الإسلاميّة.

 

انطلاقًا من ذلك، من الضروريّ التعرّف مجدّدًا على نطاق ومستوى هذا النوع من الحرب وكذلك مبانيها وأبعادها؛ لأنّه فقط من خلال ذلك يمكن التقدّم في سبيل القضاء عليها. واعتبر سماحة قائد الثورة آية الله العظمى الخامنئي أنّ أهمّ استراتيجيّة العدوّ ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة في العقدين اللذين تليا مرحلة الثمان سنوات من الدفاع المقدّس هي الحرب الناعمة وقام بتبيين وتوضيح هذه الحرب. وما هذه المقالة إلّا محاولة في سبيل معرفة ماهيّة وكيفيّة تشكّل الحرب الناعمة، أهدافها وخصائصها من وجهة نظر سماحة قائد الثورة الإسلامّية. ومن البديهيّ أنّ معرفة الحرب الناعمة أكثر يمكنه أن يؤدّي إلى التعرّف أكثر على هذه الظاهرة وقولبتها ضمن مفاهيم وكذلك سوف يساعد في تحسين إدارة الأمن القوميّ في مقابل التهديدات الناعمة ضدّ الأمن القوميّ للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة. وقطعًا، كلّما زادت معرفة واطّلاع المحافل والمراكز الاستراتيجيّة والنخب بهذه الظاهرة كلّما أدّى ذلك إلى زيادة الانسجام والتآزر في المواجهة ضدّ الحرب الناعمة.

 

معرفة الحرب الناعمة من وجهة قائد الثورة الإسلاميّة، علي ‌محمّد نائيني

 

[1] للمزيد انظر: تاميلسون، جان (1381)، جهانى شدن و فرهنگ، ترجمه محسن حكيمي (تهران: نشر فرهنگى وانديشه).

[2] نائینی، علی‌محمد (1387)، "نگرش راهبردی به پدیده جهانی شدن فرهنگ وپیامدهای آن"، فصلنامه سیاسی راهبردی، سال اول، شماره یک.

[3] للمزيد انظر: نائینی، علی‌محمد (1388)، "مقدمه‌ای بر روش‌شناسی انقلاب‌های رنگی"، مصدر سابق.

[4]  Committee on the Present Danger (CPD).

[5]  National Endowment for Democracy (NED).

[6]   The Hoover Institute.

  [7]       Soft war.

[8] عبدالله‌خاني، على (1385)؛ رويكردها وطرح‌هاى آمريكايى درباره ايران (تهران: مؤسسه فرهنگى مطالعات وتحقيقات بين ‌المللى ابرار معاصر تهران)، الصفحة 39.

[9] المصدر نفسه، الصفحة 27.

[10]   Dickman, L. (2009) : us and ira ethnic problems. www.u.s.ir,p 25.

[11] للمزيد انظر: استراتيجيّة الأمن القوميّ الأمريكيّ عام 2006.

[12] ضیایی‌پرور، حمید (1384)؛ جنگ نرم، ویژه جنگ رسانه‌ای (تهران: مؤسسه فرهنگی مطالعات وتحقیقات ابرار معاصر تهران)، الصفحات 270 -285).

قراءة 1219 مرة