من المباحث المرتبطة بالعدل الإلهي مبحث الهداية والضلال، فقد يتوهم أن كلا من الهداية والضلال بيد الله تعالى، وليس للعبد فيهما أي أثر أو دخل، وهو ما ربما يستفاد منه في بعض الآيات الشريفة، فتعود مشكلة الجبر وعدم الاختيار من أساسها، وينتفي العدل الإلهي، إذ من غير المنطقي أن يضلهم ثم يعذبهم على ما أجبرهم تعالى عليه.
وتوضيح الحال في المقام يستدعى بيان معنى الهداية والضلال لغة، ثم الإشارة إلى ما هو المراد بهما في الآيات القرآنية المباركة.
1- الهداية والضلال لغة:
الهداية والضلال من المعاني المتضادة، فالهداية سلوك الطريق الصحيح والتزامه، والضلال إضاعته والعدول عنه، ويطلق على الأشياء أيضا، فيقال ضل الشيء بمعنى ضاع وذهب في غير حقه، وهدي ضده، فكل من زلت قدمه وانحرف عن الهدف والغاية المقصودة فهو ضال، ومن حصلهما وسار باتجاههما حقا فهو مهتدي.
وقد غلب استعمالهما في الأمور المعنوية، المرتبطة بالدين الحق، وسلوك الطريق نحوه تعالى، فتكون الهداية بمعنى الرشاد، والضلال بمعنى فقدانه وإضاعته.
2- الهداية من الله:
إن مختلف الموارد التي تتحدث عن الهداية في القرآن الكريم تنسبها إلى الله تعالى وحده، وتقدم في طيات البحث أنه تعالى خلق الإنسان على الفطرة السليمة، وهي فطرة التوحيد ومعرفة الربوبية، وأنه أرسل أنبياءه ورسله لتثبيت هذه الفطرة، وتوجيهها الوجهة الصحيحة، من خلال الدين وتعاليمه.
وتنقسم الهداية إلى قسمين، هداية تكوينية وهداية تشريعية.
أما القسم الأول أي الهداية التكوينية، فغير خاص بالإنسان وحده، بل يشمل كل المخلوقات، حيث إنه تعالى قد هدى كل شيء إلى تحقيق كمال طبيعته وجوهره، قال تعالى على لسان موسى (عليه السلام): ﴿قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾([1]).
وأما الهداية التشريعية فهي خاصة بالإنسان، لأنه الأمين على الخلافة في الأرض، ويقع على عاتقه إعمار الكون، والتوجه به نحو الغاية المنشودة، ويتبعه الجن في ذلك، لأنه رغم وجوده قبل وجود الإنسان في هذا العالم، ولكنه لم ينل مقام الخلافة الإلهية، وهذا ما يفسر ضرورة إتباع الجن أنبياء الإنس، ولم يرد أنه تعالى أرسل إلى الجن أنبياء خاصين بهم، بل هم مكلفون بالسير على هدى أنبياء الإنس، ويعملون على خدمته.
قال تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾([2]).
وقال تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدً﴾([3]).
وكيف كان، فإن الآيات التي تذكر أن حقيقة الهداية منه تعالى كثيرة، مثل قوله تعالى: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾([4]).
وقال تعالى: ﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء﴾([5]).
وقوله تعالى: ﴿وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله﴾([6]).
وقوله تعالى: ﴿وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلن﴾([7]).
إلا أن ذلك لا يعني أن الهداية أمر اضطراري منه تعالى، وأنهم لا خيار لهم فيها، بل إنه تعالى قد أودع في الإنسان الفطرة السليمة، وهي بداية الهداية، فإذا جرى الإنسان على وفقها باختياره وإرادته وصل إلى شاطئ الأمان والسعادة الحقيقية، وأما إذا انحرف عن جادة الحق، واتبع الهوى، والتزم بالمعاصي، أدى ذلك إلى ضمور هذه الفطرة، وذهاب الاستعداد فيه نتيجة سوء اختياره.
فنسبة الهداية إليه تعالى نسبة حقيقية، من جهة أنه تعالى أودع فيه الفطرة وهيأ له كافة الظروف والاستعدادات فيه لسلوك الطريق الصحيح إن أحسن الاختيار.
3- الضلال من الناس:
وأما الضلال فهو بخلاف الهداية، ناشئ من سوء اختيار العبد نفسه، ولا يمكن نسبته إلى الله تعالى بداية، إذ هو يبتدئ من العبد نفسه، ويترتب على ذلك إضلال الله له، الناشئ عنه الأسباب والقوانين التي أودعها الله تعالى في الموجودات، لأن الانحراف وإتباع الهوى يؤدي إلى ضمور الفطرة كما تقدم، وتترتب عليه آثاره بشكل طبيعي، فالإضلال منه تعالى مترتب على ضلال المرء نفسه، وأما الهداية فبالعكس حيث أن بدايتها منه تعالى.
ولهذا نجد في مختلف الآيات الشريفة التي تحدثت عن الضلال بينت أن العبد هو المبادر إلى إضلال نفسه كما في قوله تعالى: ﴿وما يضل به إلا الفاسقين﴾([8])، وقوله تعالى: ﴿يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين﴾([9]).
حيث بينت الآية الأولى أن الضلال مترتب على كون الضال فاسقاً في المرتبة السابقة، لأن الفاسقين واقع موقع الموضوع في القضية، ويترتب عليها الضلال، وكذلك الحال في الآية الثانية حيث جعلت موضوع إضلاله تعالى كونهم ظالمين في المرتبة السابقة.
والآيات الشريفة التي نسبت الهداية إليه تعالى، والضلال إلى العباد أنفسهم كثيرة.
4- السعادة والشقاوة:
يتضح من خلال البحوث المتقدمة، الوجه في ما ورد في جملة من الأحاديث الشريفة، المتضمنة معنى "أن السعيد سعيد في بطن أمه وأن الشقي شقي في بطن أمه"، فإنها لا تعني الإكراه والجبر، على نحو لا يكون للإنسان أي أثر فيه، بل غاية ما تدل عليه أنه ثبت في علم الله تعالى من حين انعقاد نطفته وصيرورته مشروع إنسان أنه يكون سعيدا أو شقيا، وهذا من العلم الثابت في اللوح المحفوظ، لا أنه تعالى فرض عليه السعادة والشقاء.
سماحة الشيخ حاتم اسماعيل
[1] سورة طه، آية:50
[2] سورة النمل، آية:17
[3] سورة الجن، آية:1-2
[4] سورة العنكبوت، آية:69
[5] سورة القصص، آية:56
[6] سورة الأعراف، آية:43
[7] سورة إبراهيم، آية:12
[8] سورة البقرة، آية:26
[9] سورة إبراهيم، آية:27