قال تعالى: ﴿قُلِ اللَّـهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلی كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾([1]).
إشارات:
- ذکرت التفاسير في شأن نزول هذه الآية: "لما افتتح رسول الله صلی الله عليه وسلم مكة ووعد أمته ملك فارس والروم قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكفِ محمداً مكة والمدينة حتی طمع في ملك فارس والروم؛ فأنزل الله تعالی هذه الآية".
وقد قال بعض المفسّرين في سبب نزولها هو: "کان رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم والمسلمون مشغولين بحفر الخندق في أطراف المدينة، وانتظم المسلمون في جماعات يحفرون بسرعة وجدّ لکي ينجزوا هذا الحصن الدفاعي قبل وصول جيش الأعداء، وفجأة ظهرت صخرة کبيرة بيضاء صلدة وسط الخندق عجز المسلمون عن کسرها أو تحريکها، فجاء سلمان إلی رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم يعرض عليه الأمر، فنزل رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم إلی الخندق وتناول المعول من سلمان وأنزل ضربة شديدة بالصخرة، فانبعث منها الشرر، فصاح النبي صلّی الله عليه وآله وسلّم مکبّراً تکبيرة الانتصار، فردّد المسلمون التکبير وراح صوتهم يدوّي في کل مکان، ومرّة أخری أنزل رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم معوله علی الصخرة فانبعث الشرر وکسرت قطعة منها، وارتفع صوت تکبير الانتصار من النبي والمسلمين بعده، وللمرة الثالثة ارتفع معول النبي صلّی الله عليه وآله وسلّم ونزل علی الصخرة، وللمرة الثالثة انبعث الشرر من الضربة وأضاء ما حولها، وتحطّمت الصخرة وارتفع صوت التکبير بين جنبات الخندق.
فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئاً ما رأيت منک قط، فالتفت رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم، إلی القوم وقال: رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: ضربت ضربتي الأولی فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن کسری کأنّها أنياب الکلاب، فأخبرني جبرئيل أنّ أمّتي ظاهرة عليها، ثمّ ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم کأنّها أنياب الکلاب، وأخبرني جبرئيل أنّ أمّتي ظاهرة عليها، ثمّ ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي قصور صنعاء أنّها أنياب الکلاب، وأخبرني جبرئيل أنّ أمّتي ظاهرة عليها، فأبشروا، فاستبشر المسلمون وحمدوا الله، أمّا المنافقون فقد عبسوا وقالوا بلهجة المعترض: أمل باطل ووعد مستحيل، هؤلاء يحفرون الخنادق خوفاً علی أرواحهم من جيش صغير يخشون مواجهته، ثمّ يحلمون بفتح أعظم دول العالم، وعندئذ نزلت الآيات المذکورة.
- ما ورد في هذه الآية من منح العزّة وإنزال الذلّة من قبل الله، هو طبقاً لقوانينه وسننه، وهو لا يعزّ أحداً أو يذلّه من دون سبب أو وجه، فقد جاء في الروايات علی سبيل المثال: من تواضع لله رفعه، ومن تکبّر وضعه الله([2]).
يوبّخ القرآن الکريم بشدّة أولئک الذين يطلبون العزّة من غير الله تعالی، ويقول: «أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا»([3]).
إذن، فالعزّة والذلّة بيد الله، ولکن توفير أسبابهما بيدنا نحن البشر.
التعاليم:
١ـ الله تعالی هو المالک الحقيقي لجميع الحکومات، وأيّ ملک لغير الله هو ملک محدود وعابر، «مَالِكَ الْمُلْكِ«.
٢ـ الله هو المالک، أمّا الآخرون فمؤتمنون عليه فحسب، وعليهم العمل طبقاً لرضا المالک الحقيقي، «مَالِكَ الْمُلْكِ«.
٣ـ إن کان الملک لله، فلم إذن يغترّ الإنسان إذا اؤتمن عليه، ويقنط إذا فقده! «مَالِكَ الْمُلْكِ«.
٤ـ الله يؤتي الملک والحکم من کان أهلاً له، کما آتی سليمان ويوسف وطالوت وذو القرنين، «تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ«
٥ ـ الحکومة والحاکميّة مغريتان، «وتَنْزِعُ الْمُلْكَ»؛ فـ"النزع" هو جذبه من مقره کنزع القوس من الکبد، وفيه دلالة علی التعلّق والنزوع.
٦ـ العزّة والذلّة بيد الله تعالی، فلا يتوقّع أحد العزّة من الآخرين، «تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ«
٧ـ التوحيد في الدعاء والعبادة هي بمثابة ضرورة، «بِيَدِكَ الْخَيْرُ»؛ ورد في المناجاة الشعبانية: "إلهي بيدك لابيد غيرك زيادتي ونقصي".
٨ ـ کلّ شيء من عند الله هو خير سواء کان أخذاً أو عطاء، وإن کنّا نجهل فلسفة ذلک في أحکامنا المتعجّلة، «بِيَدِكَ الْخَيْرُ«.
٩ـ منبع الشرور هو العجز والضعف. لا يصدر عمّن يقدر علی کلّ شيء إلَّا الخير، «بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَی كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ«.
تفسير النور، سماحة الشيخ محسن قراءتي
([1]) سورة آل عمران: 26.
([2]) بحار الأنوار، ج١٦، ص ٢٦٥.
([3]) سورة النساء، الآية ١٣٩.