كيف وجهت النصوص الإسلامية الناس لاستثمار المال؟

قيم هذا المقال
(0 صوت)
كيف وجهت النصوص الإسلامية الناس لاستثمار المال؟

إنّ استثمار الأموال يُعدّ أحد العوامل الأساسيّة في النموّ الاقتصاديّ. وعلى الرغم من ضرورة هذا الأمر، إلا أنّه لا يزال غير متعارفٍ في النشاطات الاقتصاديّة الأُسريّة، إذ إنّ الأُسرة هي المصدر الأساس للاستثمار.

 

لذا، من الضروريّ السعي في إصلاح برنامج تخصيص الأموال وإنفاقها، بحيث يتمّ اجتناب الإسراف، والتبذير، وهدر الثروات، أو خمودها، وذلك لكي يتمّ تسخير الاستثمار والادّخار في خدمة التطوّر الاقتصاديّ. وهذه الاستراتيجيّة في تدبير المعيشة تؤدّي إلى القضاء على الفقر والحرمان، وتكون ذخراً لا ينضب لأبناء المجتمع.

 

فالمال والثروة - بطبيعة الحال - رصيدٌ للفرد والمجتمع على حدٍّ سواء. وبعبارةٍ أخرى: إنّ المال قَوّامٌ عليهما، والخطابات القرآنيّة في هذا المجال جاءت بصيغة الجمع([1])، وذلك للدلالة على أهمّيّة الرصيد المالي وقوّاميّته في المجتمع.

 

فأصل قوّاميّة المال تبيّن لنا أهمّيّة الاستثمار، حتى وإن كانت الثروة بأيدي الناس، لأنّ الثروة لو سُخّرت لخدمة المجتمع، وتأمين مصالحه، سوف لا تفقد قوّاميّتها، لكنّها لو ادُّخرت وأصبحت خاملةً، ستفقد هذه القوّاميّة ([2]). عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّما أعطاكُمْ اللهُ هذهِ الفُضولَ مِن الأموالِ، لتُوجِّهوها حيثُ وَجّهَها اللهُ، ولَم يُعطِكُموها، لتكنِزُوها"([3]) .

 

وأكّد الدين الإسلاميّ على خاصّية العمل والاستثمار في جميع المجالات الاقتصاديّة التي تخدم المجتمع، كالزراعة، والصناعة، والتعدين، والخدمات العامّة، وما إلى ذلك من نشاطات. وتطرّقت المصادر الإسلاميّة إلى هذا الأمر وشجّعت الناس عليه، تحت عناوين مختلفةٍ: إمّا بشكلٍ مباشرٍ، مثل: إصلاح المال، والعمران، والإحياء، وإمّا بشكلٍ غير مباشرٍ، مثل: منع ركود الثروة، وحرمة الإسراف والتبذير، وحرمة إتلاف المال، وترويج مبدأ القناعة، والاقتصاد في استهلاك الأموال ([4]) .

 

وسنذكر في ما يأتي بعض الآيات المباركة والأحاديث الشريفة التي تشجّع على استثمار الأموال:

 

 آياتٌ مشجِّعة على الاستثمار:

صرّح القرآن الكريم بمشروعيّة جمع الثروة، وأهمّيّة تأمين المصادر الاقتصاديّة واستثمارها في مجال الإنتاج، وأشار إلى أنّ الله تعالى خلق الإنسان من الأرض، وسخّرها له، وأوكل إليه إعمارها، حيث قال: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَ﴾([5])، وبالطبع، فإنّ عمران الأرض لا يتمّ إلا عن طريق الاستثمار.

 

- نستلهم من قصّة النبيّ يوسف عليه السلام أنّه وضع برنامجاً اقتصاديّاً، لإدارة مصر لأكثر من عقدٍ، وتمكّن من القيام باستثماراتٍ ضخمةٍ في هذه البلاد العظيمة. وهذه الاستثمارات قد بُرمِجَت في إطار خطّةٍ طويلة الأمد، وفي ثلاثة محاور، هي: توفير عناصر الإنتاج، وإنشاء ثروةٍ ماليّةٍ واستثمارها، وبناء مخازن للموادّ الغذائيّة، بغية حفظها لسنوات الجدب. قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾([6]).

 

- خلق الله تعالى السماء والأرض، وسخّر كلّ ما فيهما، لخدمة الإنسان، وتلبية حوائجه، وأكرمه بالعقل الذي مكّنه من استثمار ما في الطبيعة من خيراتٍ، كصناعة السفن التي تقطع البحار، لكي يتسنّى له كسب رزقٍ حلالٍ. وبالطبع، لا بدّ له من أن يشكر الله تعالى على هذه النعم العظيمة. ومن المؤكّد أنّ استغلال هذه النعم لا يكون ميسّراً إلا بعد برنامجٍ استثماريٍّ مناسبٍ، وإن كان محدوداً. فعلى سبيل المثال: إنّ استخراج لحمٍ طريٍّ من البحر: ﴿وَمِنْ كُلٍّ تَأكُلُونَ لَحْمَاً طَرِيَّ﴾([7]) لا يكون ميسّراً من دون تسخير بعض الأموال في صناعة السفن والزوارق، أو على أقلّ تقديرٍ توفير وسائل الصيد.

 

- تحدّث القرآن الكريم عن استثمارٍ ضخمٍ في أحد المشاريع العظيمة إبّان العهود السالفة من خلال تسخير أموالٍ طائلةٍ، واستخدام تقنيةٍ متطوّرةٍ. وهذا المشروع هو: بناء سدٍّ بين جبلين يحول دون عبور الأعداء من تلك الفسحة، حيث تمّ إنشاؤه من قِبَل ذي القرنين، تلبيةً لطلب سكّان المنطقة، وذلك إمّا باستثمار أموال السكّان وذي القرنين معاً، وإمّا باستثمار أموال السكّان فحسب. وذكر القرآن الكريم نجاح هذا المشروع العظيم، وأنّ ذا القرنين اعترف بأنّ هذا النجاح لم يكن ممكناً لولا رحمة الله تعالى ولطفه، إذ أكرمه تعالى بقدرةٍ مكّنته من صناعة ذلك السدّ. قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبً﴾([8]) .

 

- أمر الله تعالى المسلمين بأن يعدّوا أنفسهم لمواجهة الأعداء قدر المستطاع، وذلك حتّى لا يطمع أحدٌ بالإغارة على أراضيهم وسلب أموالهم. قال عزّ وجلّ في كتابه الكريم: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾([9]) .

 

فهذه الآية المباركة تدلّ على ضرورة اقتناء الأسلحة المتطوّرة من قِبَل المسلمين في كلّ زمانٍ، كما أنّها تحتّم عليهم تقوية عزائم الجند، ورفع معنويّاتهم، ليزدادوا قوّةً. وهي بالتأكيد لا تختصّ بالاستعداد العسكريّ وحسب، بل نستوحي منها ضرورة الاهتمام بسائر القضايا الاقتصاديّة، والثقافيّة، والسياسيّة، التي تندرج تحت مفهوم(القوّة)، لما لها من تأثيرٍ بالغٍ في مواجهة الأعداء([10]).

 

- هناك آياتٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم تطرّقت إلى نماذج عديدةٍ من استثمار الأموال في مختلف المشاريع، منها الآيتان 37 و38 من سورة هود، والآية 27 من سورة المؤمنين التي تشير إلى توفير بعض الأمور، من أجل صناعة سفينة نوح عليه السلام عن طريق الوحي. والآيتان 12 و13 من سورة سبأ تشيران إلى خطّة النبيّ سليمان عليه السلام الاستثماريّة في صناعة جدران، وتماثيل، وأواني طعام كبيرة، وقدور ثابتة. وكذلك الأمر في الآيتين 10 و11 من سورة سبأ، والآيات 26 إلى 28 من سورة القصص التي تذكر مشروع النبيّ داوود عليه السلام الاستثماريّ في صناعة الدروع الحربيّة، وكذلك تشير إلى الاتّفاقيّة التي عُقِدَت بين النبيّ شعيب عليه السلام والنبيّ موسى عليه السلام في استثمار خدمات الأخير ([11]) .

 

روايات مشجِّعة على الاستثمار:

وفي ما يلي نذكر بعض الروايات المباركة التي تناولت قضيّة استثمار الأموال:

- روى زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "ما يَخلُفُ الرّجُلُ بَعدَهُ شَيئاً أشَدَّ عَلَيهِ مِن المالِ الصّامِتِ". قال زرارة: قلت له كيف يصنع به؟ قال عليه السلام: "يَجعَلهُ فِي الحائطِ والبُستانِ أو الدّارِ"([12]) .

- روى محمّد بن عذافر، عن أبيه، قال: أعطى أبو عبد الله عليه السلام أبي ألفاً وسبعمائة دينارٍ، فقال له: "اتَّجِر لِي بِها". ثمّ قال عليه السلام: "أَما إنّهُ لَيسَ لِي رَغبَةٌ في رِبحِها، وإنْ كانَ الرّبحُ مَرغوباً فيهِ، ولكِنِّي أحبَبتُ أن يَراني اللهُ عزَّ وجلَّ مُتعرِّضاً لفَوائدِهِ". قال: فربحت له فيه مائة دينارٍ، ثمّ لقيته، فقلت له: قد ربحت لك فيها مائة دينارٍ، ففرح أبو عبد الله عليه السلام بذلك فرحاً شديداً، وقال لي: "أَثبِتْها في رَأسِ مالِي"([13]) .

 

- أوصى الإمام جعفر الصادق عليه السلام أحد أصحابه أن يشتري مزرعةً أو بستاناً، لأنّ الذي يمتلك رصيداً مادّيّاً يؤمّن حاجاته وحاجات عياله، سوف لا يعاني كثيراً، ويرتاح باله، لو تعرّض إلى نائبةٍ أو حادثةٍ. فقد روى محمّد بن مرازم، عن أبيه: أنّ أبا عبد الله عليه السلام قال لمصادف مولاه: "اتّخِذْ عقدةً أو ضَيعةً، فإنّ الرّجلَ إذا نزَلت بهِ النّازِلةُ أو المصيبةُ، فذَكرَ أنّ وَراءَ ظهرِهِ ما يقيمُ عيالَهُ، كانَ أسخَى لنفسِهِ"([14]).

 

- وأوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس باستثمار أموالهم، وعدَّ ذلك من المروءة، حيث قال: "مِن المروءَةِ استصلاحُ المالِ"([15]) . كما أكّد الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام على هذا الأمر - أيضاً - بقوله: "استثمارُ المالِ تمامُ المروءَةِ"([16]) .

 

وإضافةً إلى ما ذُكر، فإنّ جميع الروايات التي وردت في العقود التجاريّة، مثل: عقد المزارعة، والمساقاة، والمضاربة، والشراكة، والجعالة، والإجارة، وما شاكلها، تجوّز استثمار الأموال، وتسخيرها، خدمةً للفرد والمجتمع.

 

فن التدبير في المعيشة - رؤية قرآنية روائية - ، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

 

([1]) وردت في القرآن الكريم عبارات عديدة بصيغة الجمع في هذا المجال، مثل: ﴿خلقَ لكم﴾، ﴿جعلَ لكم﴾، ﴿للنّاس﴾، ﴿رزقاً لكم﴾...

([2]) فينومينولوجيا الفقر والتنمية (بديده شناسي فقر وتوسعه)، إشراف محمّد الحكيميّ، ط1، قم المقدّسة، منشورات المركز الإعلاميّ في الحوزة العلميّة في قم المقدّسة، 1380هـ.ش، ج3، ص266.

([3]) الكليني، الكافي، م.س، ج4، أبواب الصدقة، باب في أداء المعروف، ح5، ص32.

([4]) الحسينيّ، رضا: نمط توزيع الدخل وسلوك المستهلك المسلم (اُلكوي تخصيص درامد ورفتار مصرف كننده مسلمان)، ط1، لام، منشورات مركز الثقافة والفكر الإسلاميّ، 1379هـ.ش، ص159.

([5]) هود: 61.

([6]) يوسف: 47-49.

([7]) فاطر: 12.

([8]) الكهف: 94-97.

([9]) الأنفال: 60.

([10]) الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، م.س، ج5، ص472.

([11]) لمعرفة المزيد عن الخطط الاستثماريّة التي وردت في القرآن الكريم، انظر: رجائي, وآخرون، معجم موضوعى آيات اقتصادى قرآن(باللغة الفارسية)، م.س، ص104-110.

([12]) الكليني، الكافي، م.س، ج5، كتاب المعيشة، باب شراء العقارات...، ح2، ص91.

([13]) الكليني، الكافي، م.س، ج5، كتاب المعيشة، باب ما يجب من الاقتداء بالأئمّة عليهم السلام، ح12، ص76.

([14]) الكليني، الكافي، م.س، ج5، كتاب المعيشة، باب الدين، ح5، ص92.

([15]) الصدوق، من لا يحضره الفقيه، م.س، ح3616.

([16]) الكليني، الكافي، م.س، ج1، كتاب العقل والجهل، ح12، ص20.

قراءة 999 مرة