كما يخوض الإسلام معركة التحرير الداخلي للإنسانية، كذلك يخوض معركة أخرى لتحرير الإنسان في النطاق الاجتماعي، فهو يحطم في المحتوى الداخلي للإنسان أصنام الشهوة التي تسلبه حريته الإنسانية، ويحطم في نطاق العلاقات المتبادلة بين الأفراد الأصنام الاجتماعية، ويحرر الإنسان من عبوديتها، ويقضي على عبادة الإنسان للإنسان، (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله)([1]). فعبودية الإنسان لله تجعل الناس كلهم يقفون على صعيد واحد بين يدي المعبود الخالق، فلا توجد أمة لها الحق في استعمار أمة أخرى واستعبادها ولا فئة من المجتمع يباح لها اغتصاب فئة أخرى ولا انتهاك حريتها، ولا انسان يحق له ان ينصب نفسه صنما للآخرين.
ومرة أخرى نجد أن المعركة القرآنية الثانية من معارك التحرير قد استعين فيها بنفس الطريقة التي استعملت في المعركة الأولى: (معركة الإنسانية داخلياً من الشهوات)، وتستعمل دائما في كل ملاحم الإسلام.. وهي: التوحيد. فما دام الإنسان يقر بالعبودية لله وحده، فهو يرفض بطبيعة الحال كل صنم وكل تأليه مزور لأي إنسان وكائن، ويرفع رأسه حرا أبيا ولا يستشعر ذل العبودية والهوان أمام أي قوة من قوى الأرض أو صنم من أصنامها. لان ظاهرة الصنمية في حياة الإنسان نشأت عن سببين:
أحدهما: عبوديته للشهوة التي تجعله يتنازل عن حريته إلى الصنم الإنساني، الذي يقدر على إشباع تلك الشهوة وضمانها له.
والآخر: جهله بما وراء تلك الأقنعة الصنمية المتألهة من نقاط الضعف والعجز.
والإسلام حرر الإنسان من عبودية الشهوة كما عرفنا آنفا، وزيف تلك الأقنعة الصنمية الخادعة: - (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم)([2]). فكان طبيعيا أن ينتصر على الصنمية، ويمحو من عقول المسلمين عبودية الأصنام بمختلف أشكالها وألوانها. وعلى ضوء الأسس التي يقوم عليها تحرير الإنسان من عبوديات الشهوة في النطاق الشخصي، وتحريره من عبودية الأصنام في النطاق الاجتماعي، سواء كان الصنم أمة، أم فئة أم فردا.. نستطيع ان نعرف مجال السلوك العملي للفرد في الإسلام، فإن الإسلام يختلف عن الحضارات الغربية الحديثة التي لا تضع لهذه الحرية العملية للفرد حدا إلا حريات الأفراد الآخرين، لان الإسلام يهتم، قبل كل شئ _ كما عرفنا _ بتحرير الفرد من عبودية الشهوات والأصنام، ويسمح له بالتصرف كما يشاء على أن لا يخرج عن حدود الله. فالقرآن يقول: (خلق لكم ما في الأرض جميعا)([3]). (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه)([4]). وبذلك يضع الكون بأسره تحت تصرف الإنسان وحريته ولكنها حرية محدودة بالحدود التي تجعلها تتفق مع تحرره الداخلي من عبودية الشهوة، وتحرره الخارجي من عبودية الأصنام. واما الحرية العملية في عبادة الشهوة والالتصاق بالأرض ومعانيها، والتخلي عن الحرية الإنسانية بمعناها الحقيقي واما الحرية العملية في السكوت عن الظلم والتنازل عن الحق، وعبادة الأصنام البشرية والتقرب إليها، والانسياق وراء مصالحها، والتخلي عن الرسالة الحقيقية الكبرى للإنسان في الحياة فهذا ما لا يأذن به الإسلام لأنه تحطيم لأعمق معاني الحرية في الإنسان، ولأن الإسلام لا يفهم من الحرية ايجاد منطلق للمعاني الحيوانية في الإنسان، وانما يفهمها بوصفها جزءا من برنامج فكري وروحي كامل، يجب ان تقوم على أساسه الإنسانية.
[المدلول الغربي للحرية السياسية:] ونحن حين نبرز هذا الوجه التحريري الثوري للإسلام في النطاق الاجتماعي.. لا نعني بذلك انه على وفاق مع الحريات الاجتماعية الديمقراطية في إطارها الغربي الخاص. فإن الإسلام كما يختلف عن الحضارة الغربية في مفهومه عن الحرية الشخصية _ كما عرفنا قبل لحظة _ كذلك يختلف عنها في مفهومه عن الحرية السياسية والاقتصادية والفكرية. فالمدلول الغربي للحرية السياسية يعبر عن الفكرة الأساسية في الحضارة الغربية القائلة: إن الإنسان يملك نفسه، وليس لأحد التحكم فيه. فإن الحرية السياسية كانت نتيجة لتطبيق تلك الفكرة الأساسية على الحقل السياسي، فما دام شكل الحياة الاجتماعية ولونها وقوانينها يمس جميع أفراد المجتمع مباشرة فلابد للجميع ان يشتركوا في عملية البناء الاجتماعي بالشكل الذي يحلو لهم، وليس لفرد ان يفرض على آخر ما لا يرتضيه، ويخضعه بالقوة لنظام لا يقبله. وتبدأ الحرية السياسية تتناقض مع الفكرة الأساسية منذ تواجه واقع الحياة، لأن من طبيعة المجتمع ان تتعدد فيه وجهات النظر وتختلف، والاخذ بوجهة نظر البعض يعني سلب الآخرين حقهم في امتلاك ارادتهم والسيطرة على مصيرهم. ومن هنا جاء مبدأ الأخذ برأي الأكثرية، بوصفه توفيقا بين الفكرة الأساسية والحرية السياسية. ولكنه توفيق ناقص: لأن الأقلية تتمتع بحقها في الحرية وامتلاك ارادتها كالأكثرية تماما، ومبدأ الأكثرية يحرمها من استعمال هذا الحق فلا يعدو مبدأ الأكثرية ان يكون نظاما تستبد فيه فئة بمقدرات فئة أخرى، مع فارق كمي بين الفئتين. ولا ننكر ان مبدأ الأكثرية قد يكون بنفسه من المبادئ التي يتفق عليها الجميع، فتحرص الأقلية على تنفيذ رأي الأكثرية باعتباره الرأي الأكثر أنصارا، وان كانت في نفس الوقت تؤمن بوجهة رأي أخرى، وتعمل لكسب الأكثرية إلى جانبه. ولكن هذا فرض لا يمكن الاعتراف بصحته في كل المجتمعات، فهناك توجد كثيرا الأقليات التي لا ترضى عن رأيها بديلا، ولو تعارض ذلك مع رأي الأكثرية.
ونستخلص من ذلك: ان الفكرة الأساسية في الحضارة الغربية لا تأخذ مجراها في الحقل السياسي، حتى تبدأ تتناقض وتصطدم بالواقع، وتتجه إلى لون من ألوان الاستبداد والفردية في الحكم، يتمثل على أفضل تقدير في حكم الأكثرية للأقلية. والإسلام لا يؤمن بهذه الفكرة الأساسية في الحضارة الغربية لأنه يقوم على العقيدة بعبودية الإنسان لله، وان الله وحده هو رب الإنسان ومربيه، وصاحب الحق في تنظيم منهاج حياته... (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار *... ان الحكم إلا الله أمر ألا تعبدوا إلا إياه... )([5]). وينعى على الافراد الذين يسلمون زمام قيادهم للآخرين، ويمنحونهم حق الإمامة في الحياة والتربية والربوبية (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله... )([6]). فليس لفرد ولا لجموع أن يستأثر من دون الله بالحكم، وتوجيه الحياة الاجتماعية ووضع مناهجها ودساتيرها. وفي هذا الضوء نعرف ان تحرير الإسلام للإنسان في المجال السياسي، انما يقوم على أساس الايمان بمساواة أفراد المجتمع في تحمل أعباء الأمانة الإلهية، وتضامنهم في تطبيق احكام الله تعالى (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)([7]). فالمساواة السياسية في الإسلام تتخذ شكلا يختلف عن شكلها الغربي، فهي مساواة في تحمل الأمانة وليست مساواة في الحكم. ومن نتائج هذه المساواة تحرير الإنسان في الحقل السياسي من سيطرة الآخرين، والقضاء على ألوان الاستغلال السياسي واشكال الحكم الفردي والطبقي. ولذلك نجد ان القرآن الكريم شجب حكم فرعون والمجتمع الذي كان يحكمه، لأنه يمثل سيطرة الفرد في الحكم وسيطرة طبقة على سائر الطبقات (ان فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم)([8]). فكل تركيب سياسي يسمح لفرد أو لطبقة باستضعاف الافراد أو الطبقات الأخرى والتحكم فيها.. لا يقره الإسلام، لأنه ينافي المساواة بين أفراد المجتمع في تحمل الأمانة، على صعيد العبودية المخلصة لله تعالى.
المدرسة الإسلامية ، السيد محمد باقر الصدر
([1]) آل عمران: 64.
([2]) الأعراف: 194.
([3]) البقرة: 39.
([4]) الجاثية: 13.
([5]) يوسف: 39 - 40.
([6]) التوبة: 31.
([7]) بحار الأنوار 75: 38.