إستقامة الرسول (صلى الله عليه وآله)؛ لا الشمس ولا القمر
إن الذي ضمن هذه النجاحات هو بالطبع عناصر متضافرة كثيرة، لكن على رأسها هو ذلك العنصر المحكم الراسخ الطافح بالمعنوية والنقاء ومعرفة الخالق والاتكال عليه، أي وجود الرسول صلى الله عليه وآله نفسه. كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أعلم أهل مكة وأعقلهم. كان قبل البعثة أكرم الناس في تلك المنطقة وأشرفهم وأحسنهم أخلاقًا. وقد شمل اللطف الإلهي هذا الإنسان المميّز بين أولئك الناس وأُلقيت تلك الأعباء على عاتقه، فقد اختبره الله، وكان الله يعرف عبده ويعلم على عاتق من يضع هذا العبء، صمد الرسول واستقام. وقد أضحت هذه الاستقامة، التي ترافقت مع المعرفة العميقة بالهدف الذي يتحرك نحوه والطريق الذي يسلكه، سندًا وعونًا لكل خطوات التطور والتحول التي قطعها الرسول ولازدهار هذه الحركة العظيمة. نعم، الحق منتصر ولكن بشروط. وإن شرطا انتصار الحق: الدفاع عن الحق؛ والاستقامة في طريق الحق...
في الطور الأول من البعثة، وبعد مضي ثلاث سنوات أو أكثر - حيث كانت الدعوة سرية - استطاع الرسول صلى الله عليه وآله أن يجتذب للإسلام ثلاثين أو أربعين شخصًا. وبعد ذلك جاء الأمر الإلهي: ﴿فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين﴾[الحجر/94؛95]. أعلن دعوتك وانزل إلى الساحة وارفع الراية واجعل عملك علنًا. نزل الرسول إلى الساحة وحدث ما تعرفونه حيث دبّ الرعب في قلوب أكابر قريش وصناديدها وأثرياء ذلك المجتمع وأقويائه. وإن أول شيء فعلوه هو تطميع الرسول الأكرم. جاءوا لسيدنا أبي طالب وقالوا له إذا كان ابن أخيك يريد الزعامة جعلناه زعيمًا مطلقًا، وإذا أراد الثروة أعطيناه منها ما يجعله أثرانا، وإذا أراد أن يكون ملكًا اخترناه ملكًا علينا، ولكن قل له ليقلع عن كلامه هذا. وكان أبو طالب يخاف على حياة الرسول ويتوجس من مؤامراتهم ضده، فجاء إلى الرسول وروى له رسالة أكابر مكة، وربما نصحه وأوصاه بأن يتنازل بعض الشيء: لماذا الصمود والإصرار إلى هذه الدرجة؛ هذا غير ضروري. فقال الرسول: والله يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو أُقتل دونه"[1] وجاء في الرواية أيضًا: "ثم أغرورقت عيناه من الدمع".. فاضت العيون المباركة للرسول بالدمع ونهض من مجلسه. وحين شاهد أبو طالب هذا الإيمان والثبات تغيّرت حاله بشدة وقال: "يا بن أخي اذهب وقل ما أحببت".. سر وراء هدفك وغايتك. "والله لا أسلمنّك بشيء".
استقامة تتلوها استقامة
هذا الصمود يصنع صمودًا. وهذه الاستقامة من الرسول ثبّتت جذور الاستقامة لدى أبي طالب. وهذا الالتزام بالهدف وعدم تهيّب العدو، وعدم الطمع في ما أيدي الأعداء، وعدم الانسداد للامتيازات التي يريد أن يمنحها الأعداء مقابل إيقاف هذه الحركة، تخلق صمودًا وسكينة وثقة بالطريق وبالهدف وبالإله الذي يتعلق به هذا الهدف؛ لذلك استطاع المسلمون، وهم يومئذ ليسوا أكثر من ثلاثين أو أربعين شخصًا، أن يثبتوا مقابل كل تلك المشاكل والصعاب ويزداد عددهم يومًا بعد يوم. فقد كانوا يشاهدون في مكة ما يصنع المشركون بعمارٍ وبلالٍ وكيف يعاملون سميةَ وياسرا ويعذبونهما ويقتلونهما. كانوا يرون كل هذا ومع ذلك يؤمنون برسالة النبي. هكذا هو تقدم الحق. لا يتقدّم الحق في محض ظروف الدعة والراحة والأمن والأمان، ولا ترفع رايته والمناداة به في محض الظروف الطيبة[2]. يتقدم الحق حينما يبدي صاحب الحق وأتباعه الاستقامة والثبات في طريق تقدم الحق.
أشداء الكفار؛ الصلابة والقوة
تقول الآية القرآنية: ﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم﴾. ليس معنى أشداء على الكفار أن يكونوا في حالة حرب دائمة مع الكفار. "أشداء"؛ الشدة هنا تعني المتانة والصمود وعدم الانهيار. ثمة معدنٌ يصدأ ويتآكل ويُنخر ويتلف. وثمة معدن لا يتآكل ولا يصدأ ولا يتهرأ رغم تقادم القرون عليه. هذا هو معنى "أشداء". الشدة معناها القوة والمتانة. فتارةً تكون القوة والصلابة في ساحة الحرب فتبرز بشكل معين؛ وقد تكون في ساحة الحوار [والمحاججة] مع العدو فتبرز بشكل آخر. لاحظوا كيف كان الرسول يتحدث مع عدوه في الحروب حينما كان يجب عليه أن يتحدث. كانت خطة النبي حينها زاخرة بالصلابة والثبات في كل مفاصلها وأجزائها[3]. في معركة الأحزاب، دخل النبي في حوار مع الطرف المقابل، ولكن أي حوار؟! اقرأوا التاريخ. فإذا ما كانت ثمة معركة فكانت بشدة وصلابة؛ وإذا كان ثمة حوار كان مع الشدة؛ وإذا كان ثمة تعامل مع شدة وصلابة. هذا هو معنى "أشداء على الكفار".
"رحماء بينهم" أي إذا كانوا فيما بينهم [مع بعضهم] كانوا مرنين أودّاء ليّني الجانب بعيدين عن الشدة والصلابة. فهنا التعاطف وبذل القلوب وكسبها، وهنا ينبغي التعامل بود ورأفة وإظهار التعاطف والرحمة.
شعب ابي طالب؛ تزول الجبال ولا..
إن الصمود الذي ظهر في بداية البعثة قد انتج تلك الاستقامة العجيبة ثلاث سنوات في شعب أبي طالب. ليس هذا مزاحًا. بقوا ثلاث سنوات في وادٍ بجوار مكة بلا ماء ولا نبات وتحت الشمس المحرقة. فقد عاش الرسول وأبو طالب والسيدة خديجة، وكل المسلمين وأُسَرِهِم في هذا الشعب بين الجبلين. وقد سدّوا عليهم الطرق والمنافذ كي لا يصلهم طعام.
أحيانًا كان بوسعهم أن يدخلوا المدينة في أيام الموسم - والتي كانت أيامًا حرة لا حرب فيها حسب العادات الجاهلية- لكن بمجرد أن يهموا بشراء شيء من حانوت كان أبو جهل وأبو لهب وسائر زعماء مكة يبثون عملاءهم وخدمهم وأبناءهم ويأمرونهم أن يدفعوا ضعف الثمن للشيء الذي يريد المسلمون شراءه كي يمنعوهم منه. لقد أمضوا ثلاث سنوات في مثل هكذا أوضاع قاسية. فهل هذا هزل؟
إنها الاستقامة الأولى وذلك العمود الصلب للخيمة، و"القلب المتوكل على الله" الذي أوجد مثل تلك الصلابة في هذه الأجواء وأهّل الجميع للصبر والصمود! كان الأطفال يبكون من شدة الجوع من الليل إلى الصباح وكانت أصوات بكائهم تصل أسماع كفار قريش من شعب أبي طالب وكانت قلوب الضعفاء منهم ترق لحالهم لكنهم لا يجرأون على مساعدتهم خوفًا من الأقوياء. لكن المسلمين وهم يرون أبناءهم يتلوّون أمامهم ما تزلزلوا أبدًا؛ وكم قد ذاقوا طعم الموت والمرض والجوع في الشعب. يقول الإمام علي لابنه العزيز محمد بن الحنفية: "تزول الجبال ولا تزل[4]". إنها نصيحة الرسول ووصيته، وهذا هو سبيل نهضة الأمة الإسلامية وبعثتها. إنه درس الرسول لنا. هذا ما تُعلمنا إياه البعثة.
الاستقامة والبصيرة، مقتطف من كلمات سماحة الإمام القائد السيد علي الخامنئي (دام ظله) حول البصيرة والاستقامة
[1]في رواية أخرى: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي لأعرض عن هذا الأمر لا أفعله حتى أظهره الله أو يذهب بما فيه".
[2] أو بصيغة اخرى: لا يتقدم الحق فقط وبمجرد توفر حالة الدعة والامن ورفع رايته والمناداة به..
[3] بمعنى كان موقف النبي ثابتا صلبا راسخا من أوله الى آخره او من ألفه الى يائه.
[4] نهج البلاغة، خطبة 11.