إستفاضت كتب الحديث والأخبار بالدعوة إلى العمل والحث عليه كما أضفت عليه أسمى النعوت والأوصاف، ونقدم للقراء عرضاً موجزاً لذلك:
(أ) - العمل شرف: إن العمل وان هان فإنه شرف للانسان، وكرامة، وخير له من أن يسأل الناس ويعيش كلاً عليهم والى ذلك يشير الحديث الشريف: (لئن يأخذ أحدكم حبله، فيذهب به إلى الجبل فيحتطب ثم يأتي به فيحمله على ظهره خير له من أن يسأل الناس)([1]). واجتاز الأصمعي على اسكافي يصلح للناس أحذيتهم وهو ينشد: وأكرم نفسي انني ان أهنتها * * * وحقك لم تكرم على أحد بعدي
فقال له الأصمعي: كيف أكرمتها وهذا عملك؟!! فسدد له سهماً وقال له: (لقد اكرمتها حين أغنيتها عن سؤال لئيم مثلك).
ويقول الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
إن الاسلام لا يرضى للمسلم أن يعيش عالة على الغير، ولا يسمح له أن يترك الكسب ويتكل على الدعاء ليرزقه اللّه من غير عمل، فقد جاء في الحديث الشريف: (ان اللّه يكره العبد فاغرا فاه يقول: يا رب ارزقني)([2]).
إن اللّه تعالى خلق الأشياء وربطها بأسبابها الطبيعية، وليس للانسان أن يترك ذلك لأنه يلزم منه الإخلال بالنظام وعدم استقامة الحياة.
(ب) - العمل جهاد: إن الاسلام يعتبر العمل جهاداً في سبيل اللّه، ويعتبر الجهد الذي يبذله المسلم في سبيل إعاشة عائلته من أفضل الطاعات والقربات، فقد روى زكريا بن آدم عن الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه قال: (الذي يطلب من فضل اللّه ما يكف به عياله أعظم أجراً من المجاهد في سبيل اللّه)([3]). واجتاز النبي (صلى الله عليه وآله) ومعه جماعة من أصحابه برجل، فرأى الصحابة من جده ونشاطه ما أعجبهم فالتفتوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا له: يا رسول اللّه، لو كان هذا في سبيل اللّه؟ فأجابهم (صلى الله عليه وآله): «إن كان خرج يسعى على ولده فهو في سبيل اللّه، وان كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل اللّه وإن كان خرج يسعى على نفسه فهو في سبيل اللّه».
إن السعي للانفاق على النفس، وعلى الأبوين وعلى الأولاد من العمل في سبيل اللّه، بل من أفضل أنواع العبادات والطاعات. إن الاسلام يعتبر العمال أعظم أجراً من المجاهدين، وقد قدمهم القرآن الكريم في الذكر على المجاهدين، قال اللّه تعالى: ﴿فاقرؤا ما تيسر من القرآن، علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللّه وآخرون يقاتلون في سبيل اللّه﴾([4]). وكم في هذا التقديم من معاني التكريم والتبجيل والتقدير، لقد اعتنى الاسلام بالعمل عناية بالغة فاعتبره جهاداً في سبيل اللّه، لأنه أراد للمسلمين أن يعيشوا عيشة هانئة يسودها الخير والرفاهية، ولن يظفروا بذلك إلا إذا عملوا في حقل هذه الحياة.
(ج) - العمل عبادة: وأضاف الاسلام إلى العمل أكرم النعوت والأوصاف فجعله عبادة وطاعة للّه ليتسابق المسلمون إلى ميادين العمل والانتاج، فقد ورد أن صحابيين جاءا إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وهما يحملان أخاً لهما، فسألهما النبي (صلى الله عليه وآله) عنه فقالا: إنه لا ينتهي من صلاة إلا إلى صلاة، ولا يخلص من صيام إلا إلى صيام حتى أدركه من الجهد ما ترى. فقال (صلى الله عليه وآله): فمن يرعى إبله، ويسعى على ولده؟ فقالا: نحن، فقال (صلى الله عليه وآله): أنتم أعبد منه.
إنه ليس من الاسلام في شيء أن نزهد في الدنيا، وندع متع الحياة، ونقبل على الصلاة والصيام، فقد نعى اللّه على الذين انصرفوا عن الدنيا فقال تعالى: ﴿ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان اللّه فما رعوها حق رعايتها﴾([5]). ويقول تعالى: ﴿قل من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة﴾([6]). إن الاسلام دعانا إلى أن نمزج بين الدنيا والآخرة مزجاً كريماً، فليس من الاسلام أن تكون الدنيا وحدها هي همنا وغايتنا، وليس من الاسلام أن نقبل على الآخرة فنضيع دنيانا، وإلى ذلك يشير الحديث: «إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً» وبهذه الدعوة الأصيلة التي تجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة امتاز الاسلام عن بقية الأديان الداعية بعضها إلى القداسة والتجرد عن المادة، والداعية بعضها إلى الاقتصار على مطالب الجسد والغاء الروح. لقد أعرب الرسول (صلى الله عليه وآله) في غير موقف من مواقفه أن رسالته الخالدة تدعو إلى الوئام بين الروح والبدن، فقد ورد أن ثلاثة رهط جاؤوا إلى بيوت أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) يسألون عن عبادته فلما أخبروا بها قالوا: وأين نحن من النبي، وقد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فانبرى أحدهم فقال لصاحبيه: «أنا أصلي الليل أبداً». وانطلق الثاني يقول: «وأنا أصوم الدهر أبداً». فقال الثالث: «وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً». فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) فقام وهو مغيظ إلى المسجد فاعتلى أعواد المنبر وأخذ يبين للمسلمين بُعد هؤلاء عن الصواب وعدم التقاء خطتهم بواقع الاسلام، فقال (صلى الله عليه وآله): بعد حمد اللّه والثناء عليه «ما بال أقوام، قالوا كذا وكذا، أما واللّه اني لأخشاكم للّه وأتقاكم لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء وتلك سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني»([7]). وسأل الإمام الصادق (عليه السلام) عن رجل، فقيل أصابته الحاجة، فقال (عليه السلام): - فما يصنع اليوم؟ - في البيت يعبد ربه عز وجل. - فمن أين قوته؟ - من عند بعض إخوانه؟ - واللّه الذي يقوته أشد عبادة منه([8]). هذا هو رأي الاسلام وهو صريح واضح يقضي بأن يعمل المسلم لدنياه وآخرته، وليس له أن يتجرد من الدنيا ويقبل على الآخرة كما ليس له أن يقبل على الدنيا ويتجرد عن الآخرة.
العمل وحقوق العامل في الإسلام، الشيخ باقر شريف القرش
([1]) الوسائل كتاب التجارة، التهذيب كتاب المكاسب.
([2]) صحيح البخاري.
([3]) مجمع البحرين.
([4]) سورة المزمل: آية 19.
([5]) سورة الحديد: آية 27.
([6]) سورة الأعراف: آية 31.
([7]) صحيح البخاري.
([8]) تذكرة الفقهاء.