محمّد محفوظ
الإنسان الذي يمتلك إمكانية التفكير المستقل، هو ذلك الإنسان الذي يستطيع استعادة حرّيته وإنسانيّته، ويستثمر طاقاته وإمكاناته في سبيل تكريس نهج الحرّية في الواقع الإنساني. فاستعادة الحرّية بكلّ متطلباتها وآفاقها، تبدأ من الإنسان نفسه، فهو الذي يقرر قدرته على التحرر والانعتاق، أو خضوعه واستغلاله واستبعاده لمراكز القوى. وذلك لأنّ التفكير السليم، هو الشرط الأوّل للقوّة في الحياة.
من هنا ركّز القرآن الحكيم على أنّ الإيمان بالله يعطي صاحبه التحرر، والتحرر يعطيه القوّة (التمسّك بالعروة الوثقى)، والعلم (يخرجه من الظلمات إلى النور). ولكن أي إيمان هذا الذي يعطينا القوّة والعلم. إنّه الإيمان الواعي، لا الإيمان المُكرَه عليه، فهو الآخر نوع من الاستعباد والخضوع للقوّة المادّية.
من هنا تحدّث القرآن في بداية الحديث عن الحرّية الدينية، وقال: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/ 256). فجذر الحرّية، هو أن يتحرر الإنسان من كلّ الضغوطات والأهواء والشهوات، التي تدفعه إلى الانسياق وراءها. فحينما يغمر الإيمان بالله عزّوجلّ قلب الإنسان، ويتواصل بحبّ واختيار مع القدرة المطلقة، تنمو لديه القدرة على الانعتاق من كلّ الأشياء التي تناقض حرّية الإنسان. فطريق الحرّية الإنسانية الحقيقة، تبدأ بالإيمان والعبودية المطلقة للباري عزّوجلّ. وذلك لأنّ كلّ الأشياء حاضرة عنده، لا يغيب شيء منها عن علمه، لأنّ الأشياء مكشوفة لديه، فلا مجال لاختباء الإنسان عن الله في أي عمل يخفيه، أو سرّ يكتمه أو خطأ يستره، لأنّ الإخفاء والكتمان والستر معانٍ تلتقي بالحواجز المادّية التي تحول بين الشيء وظهوره، ممّا لا مجال لتصوّره في ذات الله الذي يعلم خائنة الأعيُن وما تخفي الصدور.
ولعلّ هذا الإحساس هو الذي يتعمّق في وعي الإنسان من حركة إيمانه، فيمنعه عن الجريمة الخفية، والمعصية المستورة، والنيّات الشريرة التي تتحفز للاندفاع والظهور.
من هنا وقفت النصوص القرآنية ضدّ الإكراه والسيطرة، ودعت الرسول (ص) إلى التحرُّك في أجواء الإبلاغ والإقناع وحركة حرّية الفكر والتعبير، إذ قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف/ 29).
وقال عزّ مَن قائل: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية/ 21-22)، وقال تبارك وتعالى: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس/ 99).
وتحدّث جودت سعيد في كتابه (لا إكراه في الدِّين.. دراسات وأبحاث في الفكر الإسلامي) عن مجموعة من الفوائد من آية (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/ 256)، منها:
1- إنّها في ظاهرها حماية للإنسان الآخر من أن يقع عليه الإكراه من قبلك، لكنّها في باطنها حماية لك أيضاً من أن يقع عليك الإكراه، فهي حماية للآخر وحماية للذات من أن يقع على كلّ منهما الإكراه.
2- يُمكن فهم هذه الآية على أنّها إخبارٌ وليس إنشاءً، أي يُمكن أن تُفهم على أنّها نفيٌ وليست نهياً، ويكون بذلك معناها إخباراً بأنّ الدِّين الذي يُفرض بالإكراه لا يصير ديناً للمُكره، فهو لم يقبله من قلبه، والدِّين في القلب وليس في اللسان. فهي بهذا الشكل إخبار بأنّ الدِّين لا يتحقّق بالإكراه، ومَن يُكرَه إنّما يقوم بعمل عابث لا أصل له.
هذا معنى الآية حينما نفهمها على أنّها إخبار وليس إنشاءً أو أمراً، كما يمكن أن نفهم الآية على أساس الإنشاء، أي أن تُفهم على أنّها نهيٌ عن الإكراه، لأنّه لا يليق بالعاقل أن يقوم بعمل عابث، ولأنّ فرض الإيمان والدِّين بالإكراه عبثٌ، فجدير أن ينهانا الله عنه، فيكون المعنى نهياً عن ممارسة الإكراه للآخر، ونهياً أيضاً لنا عن أن نقبل الإكراه والخضوع له.
إنّ رُشد الإنسان، فرداً ومجتمعاً، هو من جرّاء التزامه بحرّيته واحترامه التام لحرّيات الآخرين. فحينما تنتفي كلّ الضغوطات والإكراهات، يتحقّق مفهوم الرُّشد في الواقع الخاصّ والعامّ.
فالحرّية بكلّ ما تُحمل من معانٍ إنسانية نبيلة وقيم تعلِّي من شأن الإنسان وكرامته، وتحميه من كلّ نزعات الاستفراد والإقصاء والنبذ والإكراه، هي بوابة الرُّشد ووسيلته في آن، وهي التي تخرج الإنسان من الغيّ، وتخلق حقائق الاستمساك بالعروة الوثقى.
والمجتمع الذي يمارس حياته السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، بعيداً عن كلّ أشكال الإكراه والعنف، هو المجتمع الرشيد الذي يُدافع عن حقوقه ومكاسبه بالحرّية. وبها أيضاً يصون حُرمات الآخرين ومكاسبهم.
ويُحدِّثنا التاريخ أنّ كلّ مَن يُمارِس الإكراه والعُنف للدفاع عن ذاته، لا ينجز مُراده، ولا يحقّق هدفه، بل ترتد عليه هذه الممارسات أكثر سوءاً، ويدخل في أتون النزاعات والحروب والعنف والعنف المضاد.
إنّ الاتحاد السوفياتي لم يستطع أن يحمي ذاته من التشرذم والانقسام والتلاشي، مع العلم أنّه يمتلك أعتى الأسلحة وأطورها. فهذه الأسلحة الفتاكة لم تمنع الشعوب المنضوية تحت لواء الاتحاد السوفياتي من النهوض ورفض كلّ أشكال القهر والإكراه.
إنّ الحضارات لا تُبنى بالإكراه، كما أنّ الأفكار لا تنتقل بالقسر والإكراه. فما أكثر الإمبراطوريات التي انهارت وتلاشت وأصبحت في ذمّة التاريخ، بفعل اعتمادها واستنادها إلى القهر والإكراه. وفي المقابل، نجد أُمماً ودولاً صمدت بوجه كلّ عمليات القمع والقسر والإكراه، لأنّها تدير شؤونها وتُسيِّر أُمورها بحرّية وديمقراطية، وبعيداً عن كلّ أشكال القهر والإكراه.
فالحياة دائماً لكلّ أُمّة ومجتمع يُدار بالحرّية، وينبذ الإكراه بكلّ صنوفه وأشكاله ومستوياته. ويرتكب حماقة تاريخية كبرى كلّ مَن يسعى إلى إدخال غيره في دينه أو مذهبه أو حزبه بالإرغام والإكراه.
لذلك فإنّ الحرّية من القيم الأساسية في حركة الإنسان الفرد والجماعة، وبها يُقاس تقدم الأُمم وتطوّرها. إذ لا يمكن أن يتحقّق التقدّم إلّا بالتحرّر من كلّ معوقاته وكوابحه. والحرّية هي العنوان العريض للقدرة الإنسانية على إزالة المعوقات وإنجاز أسباب وعوامل النهوض والانعتاق.
لذلك نجد أنّ الأنبياء جميعاً حاربوا الاستبداد والإكراه، ووقفوا بوجه الفراعنة، وعملوا من مواقع مختلفة لإرساء دعائم الحرّية للإنسان. ولقد فكّ الأنبياء جميعاً العلاقة بين الفكر والعنف، فحرروا معركة الأفكار من معركة الأجساد، والله تعالى حمى الأجساد من أن يُعتدى عليها من أجل الأفكار، فلم يعطِ لأحد الحقّ على جسد الآخر مهما كانت فكرته. وفي سبيل نيل الحقوق والحرّيات، لم يُشرِّع الله سبحانه وتعالى للأنبياء ممارسة الإجبار والإكراه، وإنّما حدّد مهمّتهم ووظيفتهم في الدعوة بالموعظة الحسنة والتبشير والنذير.
الوظيفة الكبرى هي هداية البشر، بوسائل عقلية – سلمية، بعيدة كلّ البُعد عن كلّ أشكال الضغط والقوّة والإكراه.
وعلى هدى هذا نقول: إنّه لا يجوز التضحية بحرّيات الأفراد تحت مبرر معارك الخارج وتحدّياته الحاسمة، إذ إنّه لا يمكن أن نواجه تحدّيات الخارج بشكل فاعل، إلّا إذا وفّرنا الحرّيات والحقوق لجميع المواطنين.
ولعلّنا لا نعدو الصواب، حين القول إنّ مجالنا العربي والإسلامي في العقود الخمسة الماضية قد قلب المعادلة، إذ سعت نخبته السياسية السائدة، إلى إقصاء كلّ القوى والمكوّنات تحت دعوى ومسوّغ أنّ متطلبات المعركة مع العدو الصهيوني، تتطلب ذلك. وأصبح شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) هو السائد. ولكن النتيجة النهائية التي وصلنا إليها جميعاً حاكماً ومحكوماً، إنّ هذا الخيار السياسي لم يوصلنا إلّا إلى المزيد من التدهور والانحطاط، وبفعل هذه العقلية أصبح العدو الصيهوني أكثر قوّة ومنعة، ودخلنا جميعاً في الزمن الإسرائيلي بكلّ تداعياته الدبلوماسية والسياسية والأمنية والثقافية والاقتصادية.
إنّ تصحير الحياة السياسية والمدنية العربية والإسلامية، لم يزدنا إلّا ضياعاً وتشتتاً وضعفاً. ولقد دفع الجميع ثمن هذه الخطيئة التاريخية. لذلك آن الأوان بالنسبة إلينا جميعاً أن نُعيد صياغة المعادلة. فلا انتصار تاريخي على العدو الصهيوني، إلّا بارتقاء حقيقي ونوعي لحياتنا السياسية والمدنية، فإرساء دعائم الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان، كلّ هذه الممارسات والمتطلبات من صميم معركتنا التاريخية والحضارية. وانتصارنا على العدو الخارجي، مرهون بقدرتنا على إنجاز هذه المتطلبات في الداخل العربي والإسلامي، فالإكراه الديني والسياسي، لا يصنع منجزات تاريخية، وإن صنعت سرعان ما يتلاشى تأثيرها من جراء متواليات الإكراه وامتهان كرامة الإنسان.
إنّ آراء الإنسان مصونة، بمعنى أنّ الإنسان لا يُقتل بسبب آرائه وأفكاره. والآراء والأفكار والقناعات، لا تُواجه بالقوّة المادّية أو استعداء الآخرين، وإنّما بالردّ الفكري والحوار المتواصل وبيان أوجه الخطأ والضعف في الآراء المتداولة.
لذلك كلّه، فإنّ الحرّية قبل أن تكون أشكالاً سياسية ونصوصاً دستورية، هي خروج كلّ فرد فينا من أنانيته، وأفقه الضيِّق، ومغادرة تلك الأفكار الأحادية والإقصائية والاستغنائية، التي لا تزيدنا إلّا بُعداً عن الديمقراطية ومتطلباتها الفكرية والمجتمعية.
لذلك، فإنّ النواة الأولى للاستقرار والتطوّر، هي الاحترام العميق للآخرين، مشاعراً وأفكاراً ووجوداً، ومساواة الآخرين بالذات، ونبذ كلّ أشكال ممارسة الإكراه.
وإنّنا اليوم وفي كثير من مواقعنا، أحوج ما نكون إلى رفع شعار (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، والعمل على تحويله إلى مشروع مجتمعي يُنظِّم حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، ويرفع الغطاء الديني عن كلّ الممارسات العنفية والإرهابية، التي لا يقرّها عقل ولا دين ولا تنسجم وثوابت الأُمّة.
فلننبذ من فضائنا السياسي والاجتماعي والثقافي، كلّ الممارسات الإكراهية والإقصائية، ونبني راهننا على أُسس الحرّية واحترام التعدّد والتنوّع، ونفسح له المجال لممارسة دوره ووظيفته في البناء وتعزيز خيار السلم والتعايش الأهلي.►
المصدر: كتاب حوار الأديان وقضايا الحرّية والمشاركة