"أمّا الطمع فإنّه يتحقّق عندما يبدأ الإنسان بالتفكير بالتصرّف في أموال غيره والانتفاع من المال الجاهز. والشيطان يوسوس لابن آدم ليمدّ يده إلى أموال الآخرين عبر طرق شتّى كالتملّق لأرباب الثروة وأصحاب المناصب والجاه أملاً في الظفر بشيء من دون مقابل. والأسوأ من ذلك هو الاستحواذ على ما في حوزة الآخرين بالخداع والحيلة.
هذه الفكرة أساساً إنّما تنشأ عندما يُحاول المرء الظفر باللذائذ المادّية من دون جهد وعناء، وهذا هو قوام مفهوم الطمع، فالطمع هو: رغبة المرء في زيادة ممتلكاته المادّية (وهو ضمن هذا الحدّ لا يخرج عن نطاق الحرص) بيد أنّ هذه الزيادة تتمّ عبر الاستحواذ على ممتلكات الآخرين، ومن هنا فإنّ قبح الطمع مضاعف، إذن فالطمع هو: شكل من أشكال الحرص، لكنّه حرص يحاول المتّصف به جني الربح والفائدة من أموال الآخرين، وهذا هو منشأ الطمع"[1].
الطمع إذلال لفطرة الإنسان
"مضافاً إلى أنّ الطمع ينطوي على رذيلتين (هما رذيلة الحرص ورذيلة التصرّف بمال الآخرين ظلماً)، فإنّ له عيباً باطنيّاً، وهو أنّ الشخص الطمّاع يُدرك اتّصافه بهذه الرذيلة في بادئ الأمر لكنّه يعتادُ عليها شيئاً فشيئاً فيفقد، نتيجةً لهذه العادة، واحدة من مطالبات الفطرة البشريّة.
ولتوضيح هذا المعنى لا بدّ من مقدّمة، فإنّ للإنسان منذ ولادته حاجات متعدّدة وهي تقع ضمن أقسام مختلفة فيما بينها. فقسم منها حاجات جسمانيّة، كالحاجة إلى الطعام، والمسكن، والزوج، وما إلى ذلك. والقسم الثاني هي الحاجات النفسيّة وهي ألطف من سابقتها، كالحاجة إلى أن يكون محترماً في المجتمع وغير محتقَر عند الناس. وهذه الحاجة تظهر لدى الأطفال مبكّراً، فالأطفال يحبّون أن يكونوا أعزّاء لدى والديهم، ومن هنا فإنّ إعراض الأبوين عنهم هو أشدّ إيلاماً لهم من العقاب الجسديّ.
ومن الحاجات الأخرى هي حبّ الاستقلال الذي يُبكّر في الظهور عند الأطفال أيضاً. فعندما يبدأ الطفل بالخطو مثلاً فهو يحبّ أن يخطو لوحده وأن يفلت يده من قبضة أبيه أو أُمّه عند السير في الطريق. فالطفل يشعر بالحاجة إلى الاستقلال والوقوف على قدميه بنفسه. وهذه صفة حسنة للغاية.
إذن فمن المسلّمات أنّ للمرء حاجات ومطالبات أخرى غير تلك الفسلجيّة والبدنيّة. فمن جملة الحاجات الروحيّة للإنسان هي حبّه الوقوف على قدميه والاستقلال عن الآخرين. أمّا صفة "الطمع" الذميمة فإنّها تكون في مقابل هذه الحالة تماماً، فالإنسان المبتلى بالطمع يسعى لتأمين ما ليس بحوزته من أموال الآخرين حتّى وإن اضطرّه ذلك إلى السرقة أو التحايل.
وهذا يدلّ على أنّ مثل هذا الإنسان يُرجّح لذّته الجسديّة على لذّة الاستقلال والعزّة والكرامة الذاتيّة وهو مستعدّ لتحمّل ذلّ الحاجة إلى الآخرين والتبعيّة لهم في سبيل الازدياد في المال والثروة، وهو - في هذه الحالة - إنّما يهبط بفهمه وإدراكه إلى مستوى هو أدنى من مستوى الطفل الذي ليس له من العمر أكثر من سنتين أو ثلاث سنوات، لأنّ الأخير يُدرك حاجته إلى الاستقلال، ويحظى في المقابل بما يتعلّق بطبيعته الحيوانيّة، وهذا هو ضرب من ضروب الذلّة"[2].
أَمِت الطمع كي تعيش عزيزاً
فالطمع لا يكون بمعزل عن الذلّ أبداً. ومن هنا يقول الإمام الباقر عليه السلام: "واطلب بقاء العزّ بإماتة الطمع". فأنت أساساً طالبٌ للعزّ والغنى، فإذا رغبت بالإبقاء على عزّك فعليك أن تقتل الطمع، وإن لم تفعل ذلك أمسيت ذليلاً لهذا المطلب الشيطانيّ.
لكنّ السؤال هنا هو: كيف يُمكن إزهاق روح الطمع؟
يقول الإمام عليه السلام جواباً على ذلك: "وادفع ذلّ الطمع بعزّ اليأس"، فعليك أن تُلقّن نفسك وتربّيها على اليأس ممّا في أيدي الناس. فالذي يتعوّد على أخذ مساعدة الآخرين، بما فيهم الأبوان والأخ والأخت والجار...الخ فسوف يتعوّد بالتدريج على جني النفع من الآخرين والتطفّل عليهم، وهو بذلك يسلب نفسه استقلاله وكرامته ويشعر بالحقارة ويُفرّط بالثقة بنفسه، والشخص العديم الثقة بنفسه سوف يُبتلَى بأصناف العُقَد والأمراض النفسيّة وهو لا يرى لنفسه هويّة أو قيمة.
نُقل عن أحوال المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ (رضوان الله تعالى عليه) أنّه قال: "منذ أن بدأتُ بطلب العلوم الدينيّة بشكل جدّي حاولت أن لا أطرح ما يعرض لي في درسي من معضلات علميّة على أستاذي وأن أجتهد في حلّها بنفسي عبر التأمّل والمطالعة. فالذي يُكثر من الاستفسار من الآخرين لحلّ ما يعترضه من المشاكل سيُصاب بخمول الذهن. لكنّه إذا عزم على حلّ إشكالاته بنفسه مهما أمكن فسيُصبح ذهنه وقّاداً وخلاّقاً ودقيقاً. فإنّ من جملة آفّات الحياة المعتمدة على المكائن والدراسة الآليّة هي تقويض قدرة الذهن. فعلى المدرّسين والمعلّمين أن يُحفّزوا في طلاّبهم روح الاعتماد على النفس والثقة بها، أو أن يقوّوا - على الأقلّ - اعتمادهم على أنفسهم جنباً إلى جنب مع الإفادة من التقنية الحديثة والوسائل التعليميّة المساعدة....
على أيّة حال فإنّ من بين حاجاتنا الفطريّة هو إحساسنا بالعزّة وإنّ الطمع هو عدوّ هذا الإحساس. فالطمع يُشعر الإنسان دائماً بتبعيّته للآخرين وتطفّله عليهم ويمحق في نفسه العزّ والكرامة. يقول الإمام عليه السلام هنا يتعيّن عليك - من أجل إبادة الطمع وإماتته - أن تُلقّن نفسك اليأس من مساعدة الآخرين في جميع أعمالك وأفعالك. ولا ريب أنّ اكتساب هذه الصفة يحتاج إلى تمرين عمليّ أيضاً...
فالطمع هو ذلٌّ حاضر ومدفوع الثمن نقداً وإن كان في مال الوالد. إذن فمن أجل أن ننجو من ذلّ الطمع علينا أن نُلقّن أنفسنا بأن لا نقبل المساعدة من أحد، أو أن نيأس من مساعدة الآخرين لنا وعلينا أن نسعى بأنفسنا لتولّي أُمورنا وإنجاز أعمالنا الشخصيّة. بهذه الصورة سننجو من ذلّ الطمع ونقف على أرجلنا ويُصبح كلّ واحد منّا سيّداً على نفسه، "وادفع ذلّ الطمع بعزّ اليأس". فالله سبحانه وتعالى قد أودع في كيان المرء الشعورَ بالاستقلال كي يَثبُت ويقف على قدميه بنفسه"[3].
المهتدون، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج 5، ص 63، الطبعة 4: دار الكتب الإسلامية، طهران.
[2] من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 12 آب ، 2011 م.
[3] من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 12 آب ، 2011 م.