روى الكليني قدس سره في الكافي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ: "أَمْسِكْ لِسَانَكَ، فإنّها صَدَقةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ. ثُمَ قال:وَلا يَعْرِفُ عَبْدٌ حَقِيْقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَخْزِنَ مِنْ لِسَانِهِ"1.
وقفةٌ مع لغة الموعظة
للإمساك معانٍ عديدة، منها: أمسكه بيده، أي: قبض عليه، وأمسك عن كذا، أي: امتنع عنه وكفّ، ويُقال: أمسك لسانك، أي: امتنع عن الكلام وكفّ عنه. وقد اعتبر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الإمساك عن الكلام صدقة يتصدَّقُ بها المرءُ على نفسه، فقال: "فإنّها صدقةٌ"، والضمير راجعٌ إلى الإمساك، والتأنيث بتأويل الخصلة، أي: أنَّ خصلة وعادة الإمساك عن الكلام والصمت حين لا يلزم الكلام خصلةٌ ممدوحةٌ وصدقةٌ تنفع صاحبها في الدنيا والآخرة، حالها حال الصدق في القول، فإنَّهُ يدفعُ البلايا ويُقرّبُ من الربّ، وهذا يكون عندما "يَخْزِنَ مِنْ لِسَانِهِ"، أي: يمنع ويمسك ويكفّ لسانه عن ارتكاب اللغو والكذب والنميمة والغيبة والفاحش من الكلام والشتم وما شابه ذلك من كلامٍ بغير حقّ.
وقفةٌ تأمّليّة في مضمون الموعظة
تعلّقت المشيئة الإلهيّة المقدّسة بخلق الخلائق وإسكانها أرضه التي جعلها مهبطاً لهم، وقد فضَّل ـ عزّ وجلّ ـ بعض خلقه على البعض الآخر، فقال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾2، جاعلاً هذا الإنسان المُكرّم والمفضّل خليفته في الأرض فقال: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً...﴾3، حتّى أنَّهُ ـ تبارك وتعالى ـ جعله مسجود الملائكة، فقال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾4.
ولو أردنا البحث عن أسباب هذا التفضيل والإكرام لوجدنا أنَّ أقوى تلك الأسباب هو العقل والفهم الذي يمتاز به الإنسان عن غيره من الحيوانات والعجماوات، ففي تعريف المناطقة للإنسان يقولون: (الإنسانُ حيوانٌ ناطقٌ)، وقالوا إنَّ مرادهم من (الناطقيّة) في تعريفهم هو التعقّل والتفكّر والفهم والإدراك، وبهذا يكون قوام إنسانيّة الإنسان بعقله وفكره وفهمه وإدراكه.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى قالوا إنَّ الله عزّ وجلّ كما خلق الإنسان مفطوراً على التفكير فإنَّهُ كذلك خلقه مفطوراً على النطق، بمعنى أنَّهُ يملك القدرة على التكلُّم والتعبير عن مراداته المكنونة في صقع نفسه، وأنَّه جعل اللّسان آلةً ينطق بها5، وقد ورد عن أمير البيان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنَّهُ قال: "مَا الإِنْسَانُ لَوْلَا اللِّسَانُ إِلَاْ صُوْرَةٌ مُمثَلَة، أو بَهِيمَةٌ مُهْمَلَةٌ"6، و"اللِّسَانُ مِيْزَانُ الإِنْسَانِ"7، و"الإِنْسَانُ لُبُّهُ لِسَانُهُ، وَعَقْلُهُ دِينُهُ"8، و"كَلَامُ الرَجُلِ مِيْزَانُ عَقْلِهِ"9، و"يُسْتَدَلُّ عَلَى عَقْلِ كُلِّ امْرِئٍ بِمَا يَجْرِي عَلَىْ لِسَانِهِ"10.
واللّسان كما قيل: من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، فإنَّهُ صغيرٌ جرمُهُ، عظيم طاعتُهُ وجُرمُهُ, إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللّسان، وما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق، متخيّل أو معلوم، مظنون أو موهوم إلا واللّسان يتناوله، ويتعرّض له بإثبات أو نفي، فإنَّ كُلّ ما يتناوله العلم يعرب عنه اللّسان إما بحقّ أو باطل، واللّسان رحب الميدان ليس له مردّ، ولا لمجاله منتهى وحدّ، ﴿ولا يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ﴾11 ولا يُنجي من شرّ اللّسان إلا أن يُقيّد بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة. وأعصى الأعضاء على الإنسان اللّسان، فإنَّهُ لا تعب في تحريكه ولا مؤونة في إطلاقه، وإنَّهُ أعظم آلة الشيطان في استغواء الإنسان12.
ومن هذا المنطلق كان التأكيد في الشرع المقدّس على حفظ اللّسان كبيراً جداً، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله الأطهار عليهم السلام روايات كثيرة جداً في مدح الصمت وذمّ كثرة الكلام، وانعكس ذلك من خلال إفراد جمٍّ غفيرٍ من العلماء لبحوث مطوّلة حول آفات اللّسان، وفضيلة الصمت وحفظ اللّسان إلّا عن الخير والدعوة.
فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّهُ قال: "إخْزِنْ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، فَإنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَيْطَانَ"13، وروي أنَّهُ جاء رجلٌ إليه صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: "يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي، فَقَالَ: احْفَظْ لِسَانَكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي، قَالَ: احْفَظْ لِسَانَكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي، قَالَ: احْفَظْ لِسَانَكَ... وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ؟"14.
اللسان ترجمان القلب
إنَّ اللّسان ترجمان القلب، والكاشف عمّا يختزنه المرءُ في صدره وفؤاده، وهو المعبّر عن هويّة الإنسان وشخصيّته، و"المَرْءُ مَخْبُوْءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ"15، فعقل المرء وفضلُهُ مستورٌ ومخفيٌّ تحت لسانه، إذا تكلّم وتحرّك لسانُهُ انكشف وعُرف، ولهذا لا ينبغي له إلا أن يتكلّم بعلمٍ وخير وصلاح وإلا كان اللّسان سَبُعاً إن أطلقَهُ صاحبُهُ أكلَهُ وافترسه، فعن أمير المؤمنين عليه السلام في وصيّته لابنه محمّد ابن الحنفيّة: "مَا خَلَقَ الله عَزَّ وَجَلَّ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنَ الْكَلَامِ وَلَا أَقْبَحَ مِنْهُ، بِالْكَلَامِ ابْيَضَّتِ الْوُجُوهُ وَبِالْكَلَامِ اسْوَدَّتِ الْوُجُوهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ في وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ فَإِنَّ اللِّسَانَ كَلْبٌ عَقُورٌ، فَإِنْ أَنْتَ خَلَّيْتَهُ عَقَرَ، وَرُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَتْ نِعْمَةً، مَنْ سَيَّبَ عِذَارَهُ قَادَهُ إِلَى كُلِّ كَرِيهَةٍ وَفَضِيحَةٍ ثُمَّ لَمْ يَخْلُصْ مِنْ دَهْرِهِ إِلَّا عَلَى مَقْتٍ مِنَ اللهِ وَذَمٍّ مِنَ النَّاسِ"16.
وينقل لنا التأريخ أنَّ بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يضع حصاةً في فمه، فإذا أراد أن يتكلّم بما علم أنَّ لله فيه رضا أخرجها، وإلّا بقي خازناً لسانه صامتاً 17، فلسانُ السوء واللغو والرذيلة جديرٌ به أن يُسجن ويُحبس ويُغلق عليه، وفي هذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "مَاْ مِنْ شَيءٍ أَحَقّ بِطُوْلِ الحَبْسِ مِنَ اللِّسَانِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَجَبَ اللهُ اللِّسَانَ بِأَرْبَعَةِ مَصَارِيْع لِكَثْرَةِ ضَرَرِهِ، الشْفَتَانِ مِصْرَاعَان، وَالأَسْنَان مِصْرَاعَان، وَمَعْ هَذَا انْظُر إِلَى فِعْلِهِ وَحَذِّر نَفْسَكَ مِنْ شُرُوْرِهِ"18.
لماذا الحثّ على الصمت؟
نعم، إنَّ قلّة الكلام وكثرة التفكّر والصمت من موجبات الفوز والنجاح والفلاح، وفي هذا ورد عن صادق أهل البيت عليهم السلام قوله: "نَجَاةُ المُؤْمِنِ فِيْ حِفْظِ لِسَانِهِ"19، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَنْ حَفِظَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ"20، وروي عن آدم أبي البشر عليه السلام أنَّهُ لما كثر وِلْدُهُ، وولد ولده، كانوا يتحدّثون عنده وهو ساكت، فقالوا: "يَا أَبَهْ مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ فَقَالَ عليه السلام يَا بُنَيَّ إِنَّ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ لَمَّا أَخْرَجَنِي مِنْ جِوَارِهِ عَهِدَ إِلَيَّ وَقَالَ أَقِلَّ كَلَامَكَ تَرْجِعْ إِلَى جِوَارِي"21.
الأعضاء والجوارح تستكفي اللّسان
ولشدّة خطورة اللّسان ترى الأعضاءَ كافّة تستكفيه وتطلبُ منه الإمساك عن التفوّه والكلام بغير علم وحقّ، وتطالبه بالاستقامة وترك الاعوجاج, لأنَّها ستؤخذ بجريرته وتُحاسب بجريمته، وفي هذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "إِذَا أَصْبَحَ ابنُ آدَم أَصْبَحِتِ الأَعْضَاءُ كُلُّهَا تَسْتَكْفِي اللِّسَانَ، أي تقول: اِتَقِّ اللهَ فِيْنَا، فإنَّما نَحْنُ بِكَ،إِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنا"22.
وقريبٌ منه ما عن إمامنا زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام حين يقول: "إِنَّ لِسَانَ ابْنِ آدَمَ يُشْرِفُ عَلَى جَمِيعِ جَوَارِحِهِ كُلَّ صَبَاحٍ فَيَقُولُ كَيْفَ أَصْبَحْتُمْ فَيَقُولُونَ بِخَيْرٍ إِنْ تَرَكْتَنَا وَيَقُولُونَ اللهَ اللهَ فِينَا وَيُنَاشِدُونَهُ وَيَقُولُونَ إِنَّمَا نُثَابُ وَنُعَاقَبُ بِكَ"23.
اللّسان أكثر الجوارح عذاباً
ولما كان اللّسان أضرّ الجوارح وأكثرها خطورة على الإنسان وأعظمها هلاكاً له، كان مستحقّاً لشديد العقاب وأليم العذاب، وفي هذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "يُعَذِّبُ اللهُ اللِّسَانَ بِعَذَابٍ لَا يُعَذِّبُ بِهِ شَيْئاً مِنَ الْجَوَارِحِ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ عَذَّبْتَنِي بِعَذَابٍ لَمْ تُعَذِّبْ بِهِ شَيْئاً، فَيُقَالُ لَهُ: خَرَجَتْ مِنْكَ كَلِمَةٌ فَبَلَغَتْ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَسُفِكَ بِهَا الدَّمُ الْحَرَامُ وَ انْتُهِبَ بِهَا الْمَالُ الْحَرَامُ وَانْتُهِكَ بِهَا الْفَرْجُ الْحَرَامُ، وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُعَذِّبَنَّكَ بِعَذَابٍ لَا أُعَذِّبُ بِهِ شَيْئاً مِنْ جَوَارِحِكَ"24.
ولهذا على من أراد تخليص نفسه من عذاب جبّار السماوات أن يلجم لسانه بلجام الصمت، وألَّا ينطق ويتفوّه إلّا بصدقةٍ أو معروفٍ أو صلح بين الناس، ومن قدر على ذلك كبح آفات اللّسان ونال رضا الرحمن، قال تبارك وتعالى: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾25.
لماذا الحثُّ الكبير على الصمت؟!!
لا شكّ أنَّ الكثير من الآفات الأخلاقيّة والرذائل النفسيّة إنَّما تكون بفعل لغو الكلام وزلات اللّسان، فـ "رُبَّ لِسَانٍ أَتَى عَلَى إِنْسَانٍ"26، و"كَمْ مِنْ دَمٍّ سَفَكَهُ فَمٌ"27. وأنَّ سلامة الإنسان واستقامة الإيمان إنَّما تكون بحفظ اللّسان، ومن هنا نلحظ الحثّ الكبير على الصمت الموجب لراحة وسلامة الإنسان، وفي هذا ورد عن إمامنا الباقر عليه السلام أنَّهُ قال: "إِنَّ هَذَا اللِّسَانَ مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَخْتِمَ عَلَى لِسَانِهِ كَمَا يَخْتِمُ عَلَى ذَهَبِهِ وَفِضَّتِهِ"28، ولهذا كان التأكيد الشديد على حقّ اللّسان في "إِكْرَامِهِ عَنِ الْخَنَا وَ تَعْوِيدِهِ الْخَيْر"29 كما ورد عن إمامنا زين العابدين عليه السلام.
استقامة اللسان
لقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "إنَّ أَكْثَرَ خَطَايَا ابن آَدَم فِيْ لِسَانِهِ"30، وهذا الأمر مشهودٌ ومحسوسٌ ولا يقبل الأخذ والردّ، فاللّسان مصدرُ الكذب والغيبة والفحش والسبّ والبذاءة والمراء والمجادلة والخصومة والتشدّق والكلام في ما لا يعني، والخوض في الباطل والغناء والسخرية والاستهزاء وإفشاء السّر وغيرها الكثير من الأباطيل ولغو الحديث والرذائل.
ومن هنا، وبما أنَّهُ من اللازم على الهداة المهديّين إرشاد العباد إلى ما يُنجيهم من مهاوي النيران ويُدخلهم إلى الروض والجنان، وهذا ما لا يكون إلّا لمستقيمي الإيمان وصِفَتُهُم كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ"31، كان لزاماً عليهم عليه السلام حثّ الناس وترغيبهم بموجبات الاستقامة ومنها حفظ اللّسان والصمت والسكوت عن غير ما فيه رضا الله ـ عزّ وجلّ ـ وصلاح الأفراد والأمم.
الصمت دليل الحكمة
ولا ينبغي أن يكون الصمت مجرّد سكوتٍ وسكون، وإنَّما لا بُدَّ فيه أن يكون ساحةً رحبة للتفكّر وميداناً واسعاً للتدبّر, ليستفيد المرءُ في تلك اللحظات والآنات بإعمال العقل وإجراء الفكر في أمور الخالق والخلق، وحينها تنفتح عليه آفاق الحكمة والمعرفة، فقد أخذ الله ـ تبارك وتعالى ـ على نفسه أن يأخذ بأيدي السالكين إليه، وقال عزّ من قائل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾32، ولقد ورد في الروايات عن أهل العصمة والطهارة عليه السلام: "أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ إِدْمَانُ التَّفَكُّرِ فِي الله وَفِي قُدْرَتِهِ"33.
هذا الصمت، وهذا التدبّر والتفكّر هو الذي يجعل من الإنسان حكيماً عارفاً، وبهذا النوع من الصمت يستحقّ المدح والثناء، كما ورد ذلك على لسان إمامنا الرضا عليه السلام عن أبيه عالم آل محمّد عليه السلام حيث يقول: "طُوبَى لِمَنْ كَانَ صَمْتُهُ فِكْراً وَنَظَرُهُ عَبَراً"34.
إضافةً إلى المدح لشخص الصامت المتفكّر والساكت المتدبّر نلاحظ الحثّ والدعوة إلى متابعته والدنو منه والاقتراب إليه, للاستفادة من رشحات ما يُفاض عليه من الحكمة، وهذا ظاهرٌ وجليٌّ في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إِذَا رَأَيْتُمُ الْمُؤْمِنَ صَمُوتاً فَادْنُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلْقِي الْحِكْمَةَ"35.
الكلام في خير أفضل من الصمت
ولا ينبغي فهم ما نحاول بيانه من الحثّ على الصمت وترك الكلام على أنَّهُ هو الأفضل والأكمل في كلّ الأوقات والأحيان، كلا، الصحيح هو أنَّ تفضيل السكوت والصمت فيما لو كان الكلامُ مصحوباً بالآفات والأباطيل، أمّا لو سلم الكلام من تلك الأباطيل والرذائل فهو أفضل وأكمل، وفي بعض الموارد يكون الكلام والبيان واجباً كالصدع بكلمة الحقّ.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "لَا خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ كَمَا أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ"36، وعن إمامنا زين العابدين عليه السلام في مقام الجواب عن سؤال عن الكلام والصمت، أيّهما أفضل؟، قال: "لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آفَاتٌ فَإِذَا سَلِمَا مِنَ الْآفَاتِ فَالْكَلَامُ أَفْضَلُ مِنَ السُّكُوتِ، قِيلَ وَكَيْفَ ذَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ مَا بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْصِيَاءَ بِالسُّكُوتِ إِنَّمَا بَعَثَهُمْ بِالْكَلَامِ وَلَا اسْتُحِقَّتِ الْجَنَّةُ بِالسُّكُوتِ وَلَا اسْتُوجِبَتْ وَلَايَةُ اللهِ بِالسُّكُوتِ وَلَا وُقِيَتِ النَّارُ بِالسُّكُوتِ وَلَا تُجُنِّبَ سَخَطُ اللهِ بِالسُّكُوتِ إِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْكَلَامِ، مَا كُنْتُ لِأَعْدِلَ الْقَمَرَ بِالشَّمْسِ، إِنَّكَ لَتَصِفُ فَضْلَ السُّكُوتِ بِالْكَلَامِ وَلَسْتَ تَصِفُ فَضْلَ الْكَلَامِ بِالسُّكُوت"37.
العبرة النّهائية:
بعد كُلِّ ما تقدّم يتّضح لنا من وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه يُرشدنا ويدلّنا إلى طريق ترك المضرّات والرذائل ونيل المكرمات والفضائل، والذي يتمثّل بترك لغو الحديث والصمت عن فضول الكلام، وذلك من خلال ترويض اللّسان وخزنه وضبطه، فإنَّهُ وكما تقدّم آلة الشيطان في إغراق الإنسان.
وفي الختام قصةٌ وعِبْرَة
قيل إنَّهُ اجتمع أربعة حكماء: من الروم، والفرس، والهند، والصين، فقال أحدهم: أنا أندم على ما قلت ولا أندم على ما لم أقل. وقال الآخر: إذا تكلّمت بالكلمة ملكتني، ولم أملكها، وإذا لم أتكلّم ملكتها ولم تملكني.
وقال الآخر: عجبت للمتكلّم، إن رجعت عليه كلمته ضرَّته، وإن لم ترجع لم تنفعه، وقال الرابع: أنا على ردّ ما لم أقل، أقدر منّي على ردّ ما قلت38.
* كتاب وصايا الأولياء، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- الكُلَيْني، مُحَمَّد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص114، باب: الصمت وحفظ اللسان، ح 7، تصحيح وتعليق علي أكبر غفاري، الطَّبعة الثّالثة 1367ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران.
2- سورة الإسراء، الآية: 70.
3- سورة البقرة، الآية: 30.
4- سورة الأعراف، الآية: 11.
5- المظفّر، محمّد رضا، المنطق، ص11، تحت عنوان: الحاجة إلى المنطق، الطَّبعة الثَّالثة 1414، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.
6- الآمدي، عبد الواحد التميمي، غرر الحكم، ص209، ح4029، الطَّبعة الأولى 1366ش، مكتب الإعلام الإسلامي، الحوزة العلميّة بقم.
7-م. ن، ص209، ح4021.
8- المجلسي، محّمَّد باقر، بحار الأنوار، ج75، ص56، ح119، الطَّبعة الثَّالثة 1403، دار إحياء التُّراث، بيروت.
9- الآمدي، عبد الواحد التميمي، غرر الحكم، ص209، ح4032، الطَّبعة الأولى 1366ش، مكتب الإعلام الإسلامي، الحوزة العلميّة بقم.
10- م. ن، ص209، ح4033، الطَّبعة الأولى 1366ش، مكتب الإعلام الإسلامي، الحوزة العلميّة بقم.
11- الكليني، الكافي، ج2، ص115.
12- الفيض الكاشاني، محمّد محسن، المحجّة البيضاء في تهذيب الإحياء، ح3، ص127، ربع المهلكات، كتاب آفات اللّسان، الطَّبعة الأولى1426 هـ، تحقيق وإعداد مؤسسة إحياء الكتب الإسلاميّة، قم.
13- النراقي، محمّد مهدي، جامع السعادات، ج2، ص112، بحثٌ حول (الصمت)، الطبعة الثانية، 1423هـ، نشر دار التفسير، قم.
14- النراقي، محمّد مهدي، جامع السعادات، ج2، ص113، بحثٌ حول (الصمت)، الطبعة الثانية، 1423هـ، نشر دار التفسير، قم.
15- الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، نهج البلاغة، ج 4، ص138، الموعظة: 148.
16- الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة،12: 187، باب استحباب الصمت والسكوت إلا عن الخير، ح 18،الطَّبعة الثانية1414هـ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث بقم المشرّفة.
17- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 68، ص 284.
18- الحائري، محمّد مهدي، شجرة طوبى، ص397، الطَّبعة الخامسة1385 ش،منشورات المكتبة الحيدريّة ومطبعتها، النجف الأشرف.
19- العلامة المجلسي، بحار الأنوار 68: 283، ح36.
20- م. ن.
21- م. ن.
22- الري شهري، محمّد، ميزان الحكمة، ج 4، ح2778، سلامة الإنسان في حفظ اللّسان، الطَّبعة الأولى1416 هـ، دار الحديث، قم.
23- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 115، باب: الصمت وحفظ اللسان، ح 13.
24- م. ن، ح 16.
25- سورة النساء، الآية: 114.
26- الآمدي، عبد الواحد التميمي، غرر الحكم، ص213، ح4154، الطَّبعة الأولى 1366ش، مكتب الإعلام الإسلامي، الحوزة العلميّة بقم.
27- م. ن، ح4158.
28- الحرّاني، ابن شعبة، تحف العقول، ص 298، تصحيح وتعليق علي أكبر غفاري، الطَّبعة الثانية 1363ش، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة.
29- الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج15، ص172، باب جملة مما ينبغي القيام به من الحقوق الواجبة والمندوب، ح1،الطَّبعة الثانية1414هـ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث بقم المشرّفة.
30- الطبراني، المعجم الكبير، ج10، ص197، ح 10446، الطَّبعة الثانية 1406 هـ ، دار إحياء التُّراث العربي، بيروت.
31- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج68، ص287، ح42.
32- سورة فصلت، الآية: 53.
33- الكُلَيْني، مُحَمَّد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص55، باب: التفكّر، ح3، تصحيح وتعليق على أكبر غفاري، الطَّبعة الثّالثة 1367ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران.
34- علي بن بابويه، فقه الرضا عليه السلام ص380، باب التفكّر والاعتبار، الطَّبعة الأولى1406هـ، نشر: المؤتمر العالمي للإمام الرضا عليه السلام مشهد المقدّسة، تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث بقم المشرّفة.
35- النراقي، محمّد مهدي، جامع السعادات، ج2، ص112، بحثٌ حول (الصمت)، الطبعة الثانية، 1423هـ ، نشر دار التفسير، قم.
36- وسائل الشيعة، ج12، ص187، باب استحباب الصمت والسكوت إلا عن الخير، ح18.
37- الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج12، ص188، باب استحباب الصمت والسكوت إلا عن الخير، ح2،الطَّبعة الثانية1414هـ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث بقم المشرّفة.
38- المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج10، ص138، فصلٌ في فضل الصمت والاقتصاد في المنطق، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، قم.