يقول الله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً﴾1.
معنى الذنب
الذنب هو مخالفةُ الأوامر الإلهيَّة الواردة في الشَّريعة الإسلاميَّة، من خلال ترك الواجبات أو ارتكاب المحرَّمات التي يُعاقب الله تعالى عليها. فكلُّ مخالفة لتلك الأوامر والنواهي تُعدُّ ذنباً، حتَّى لو كان هذا الذنب في نفسه هيّناً وبسيطاً، فهو عظيم لمخالفته الأوامر والنواهي الربّانية، والخروج عن رَسْمِ الطَّاعة والعبوديَّة.
كبائر الذنوب وصغائرها
لقد قسّم القرآن الكريم والروايات الشريفة الذنوب إلى نوعين هما: الكبائر والصغائر. ويدلُّ على صحّة هذا التقسيم الآية الشريفة الآتية، في قوله تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمً﴾2.
يُستفاد من الآية أنّ الكبائر يُقابلها ما هو أدنى منها رتبةً، أي الصَّغائر، فالمنهي عنها هي المعاصي، الصغائرُ والكبائرُ، والسيِّئات في الآية هي الصَّغائر، لمناسبة المقابلة بينها وبين الكبائر. وكبر المعصية إنّما يتحقّق بأهمّية النهي عنها ، ولا يخلو قوله تعالى: ﴿مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ من دلالة على ذلك.
وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾3، و"اللَّمَمَ" عبارة عن الصغائر أو نوع خاص منها.
رُوي عن الإمام الصَّادق عليه السلام: (في تفسير الآية)، قال: "الفواحش: الزِّنا والسّرقة، واللمم: الرّجل يلمّ بالذَّنب فيستغفر اللهَ منه. قلتُ: بين الضَّلال والكفر منزلةٌ؟ فقال: ما أكثر عُرى الإيمان"4.
فاللّمَم هو ما يلمُ به العبد من ذنوبٍ صغيرةٍ بجهالةٍ، ثمَّ يندمُ ويستغفرُ ويتوبُ، فيُغفَرُ له.
ويدلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً﴾5.
ومن مجموع هذه الآيات يظهر لنا أنّ الذنوب نوعان: صغيرة وكبيرة، مع أنّ كلّ ذنب مخالف للأوامر الإلهية يُعتبر كبيراً وثقيلاً، ولكن هذا الموضوع لا يُنافي كون بعض الذنوب من حيث آثارها الوخيمةُ أكبر من بعضها الآخر، وعليه يُمكن لنا تقسيمها إلى كبيرة وصغيرة.
الذُّنوب كلُّها شديدة
روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "الذّنوب كلّها شديدة، وأشدُّها ما ينبت عليه الّلحم والدَّم، لأنَّه إمَّا مرحومٌ وإمَّا معذَّبٌ، والجنَّة لا يدخلها إلا طيّب"6.
فالذّنوب كلّها شديدةٌ، أي بحسب ذواتها، لأنَّها مخالفةٌ للأوامر الإلهية، وهذا هو وجه شدّتها، وإن كان بعضها أشدّ من بعضها الآخر، وأشدّها -حسب الرواية- ما ينبتُ عليه اللحم والدم الذي قد يشمل أكل الحرام والإصرار على المعصية من دون تكفيرها بالتوبة.
فالإنسان المرحوم هو من كفّرت ذنوبه بالتوبة أو البلاء في الدنيا، ويُقابله المعذّب، وهو الذي لم تُكفّر ذنوبه بأحد الوجوه المتقدّمة، والجنّة لا يدخلها إلا طيّبٌ، أي طاهرٌ وخالصٌ من الذُّنوب7.
وعليه، فالذنوب كلّها شديدةٌ، وجميعها كبائر، ولا فرق بينها من جهة مخالفة المولى سبحانه وتعالى، وإنّما الكبائر والصَّغائر هي أمورٌ نسبيةٌ لا ذاتيةٌ، وإنّما نُطلِقُ عليها لفظ الصغائر بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، ونُطلق عليها لفظ الكبائر بالإضافة والنسبة إلى ما هو أصغر منها8.
فالجرح بالنسبة إلى القتل صغيرةٌ، وبالنسبة إلى اللطم كبيرةٌ، والزنا بالنسبة إلى النظرة المحرَّمة كبيرةٌ9.
وعليه، يُفهم من الرواية المتقدِّمة ضرورة تجنُّب كلّ ذنب يُعلَم كونه ذنباً حسب ما نصَّت عليه الشريعة الإسلامية، بل ينبغي تجنُّب كلّ ما يُحتمل أنّه كذلك، وذلك لعظمة مقام الله تعالى وحقّ طاعته، فإنّ الجرأة على ذاته المقدَّسة محتملة حتَّى مع وجود الاحتمال، فمن احتمل أنّ في الكأس خمراً فعليه عقلاً أن يمتنع عن شربه، لا لمفسدة الخمر وضرره فحسب، بل لعظمة الله ووجوب طاعته في كلّ الموارد، حتى المحتملة منها.
اتّقوا المحقّرات من الذنوب
للشيطان أبوابٌ كثيرةٌ ومداخل مختلفةٌ، يأتي منها ابنَ آدم ويستدرجه إلى المعاصي، وإنَّ أكثر بابٍ يتسلَّلُ منه إلى قلوب الناس هو باب احتقار الذُّنوب واستصغارها من قِبَلهم، وذلك بعد أن ييأس الشيطان من إسقاطهم في كبائر الذنوب يسعى جاهداً لإيقاعهم في الصغائر، بل قد يُصرُّون عليها، لأنّها بحسب تصنيفهم من صغائر الذنوب. لكنّه لو عُلم مدى خطورتها عليهم لما وقعوا فيها ولما أصرّوا عليها، روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا تنظروا إلى صغر الذنب، ولكن انظروا إلى مناجترأتم"10.
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "اتّقوا المحقّرات من الذنوب، فإنّها لا تُغفر"، قلتُ (أي الراوي): وما المحقّرات؟ قال: "الرجل يُذنب الذنب فيقول: طوبى لي لم يكن لي غير ذلك"11. وروي عن الإمام الباقر عليه السلام: "اتّقوا المحقّرات من الذنوب، فإنّ لها طالباً"12.
وروي عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في وصيّته لأبي ذر: "يا أبا ذر، إنّ الرجل ليعمل الحسنة فيتّكل عليها، ويعمل المحقّرات حتَّى يأتي الله وهو عليه غضبان، وإنّ الرجل ليعمل السيّئة فيفرق منها، يأتي آمناً يوم القيامة"13.
فالمحقّرات من الذُّنوب هي الذُّنوب التي يحتقرها الإنسان ويستصغرها، ويستهين بها، ويقول حسب ما ورد في بعض الروايات "أُذنِب وأَستغفر"، والله تعالى يقول: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾14.
فالذي يُحقّر ذنبه ويستسهل أمره، ألا يدري أنّ الذنب مهما كان صغيراً أو حقيراً فإنَّه من حيث كونه معصيةً لله العظيم فإنّه يُعدّ أمراً عظيماً، فلا ينبغي للمؤمن أن يُحقّر شيئاً من الذنوب، فقد لا يُغفر له بسبب تحقيره واستخفافه بها.
والصغيرة قد تقترن بقلّة الحياء وعدم المبالاة بها، وترك الخوف والاستهانة بالله العظيم والإصرار عليها، وهذا - بالمناسبة - ما يمنع من شمول الشَّفاعة للمذنب، فتتحوّل هذه الصغيرة إلى كبيرةٍ من الكبائر، كما صرّحت الروايات15.
ما هي أسباب الذنوب؟
لكي نستطيع التعرُّف إلى أسباب الابتلاء بالذّنوب والوقوع بها، ينبغي التنبّه إلى أسباب هذه الذنوب، مع الإشارة إلى أنَّه يوجد العديد من الأسباب والعوامل سوف نقتصر على ذكر عاملين أساسين منها، هما:
1- ضعف الإيمان في النفس:
إنَّ أهمَّ سببٍ من أسباب الوقوع في المعاصي هو ضعف الرَّادع الدِّيني لدى الإنسان، أو ما يُسمَّى بـ "ضعف الإيمان". فالإيمان أمرٌ يقبل الزيادة والنقصان، والشدّة والضعف، فنحن نشاهد في مجتمعنا كثيراً من النَّاس يشكون من قسوة قلوبهم، ومن قلّة خشوعهم في صلاتهم، ونرى من سلوكيَّات بعضهم غلبةَ حرصهم على الدُّنيا ويأسهم وقنوطهم وحزنهم في الظُّروف والمصائب القاسية، بالإضافة إلى الأنانيَّة والغرور والتعصُّب، إلى غيرها من الأمراض المتعدِّدة، والتي ترجع إلى سببٍ واحدٍ وهو ضعفُ الإيمان، الذي يزدادُ ويشتدُّ عبر الطاعات وينقص ويضعف بالمعاصي، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾16.
ولا شكّ أنّ هذا الضعف أو القوّة في الإيمان لا يولد مع الإنسان، ولا يُجبر عليه أحد، فهذا ينافي مبدأ الاختيار وعقيدة "أمر بين أمرين" التي تعني نفي الجبر والتفويض للنّاس، وإثبات اختيارية التكليف الذي تؤمن به مدرسة أهل البيت عليهم السلام. فمن خلال هذا البيان نفهم أنّ هناك أسباباً تؤدّي إلى ضعف الإيمان، بل إلى تلاشيه في بعض الأحيان، وكأنّه غير موجود.
فما هي تلك الأسباب التي قد تؤدّي إلى اضمحلال الإيمان والتي تجرّ الإنسان إلى الذنوب والمعاصي؟
من أبرز أسباب ضعف الإيمان:
- الجهل وعدم المعرفة، فهو من أعظم أسباب ضعف الإيمان.
- غلبةُ الهوى وطولُ الأمل، فغلبة الهوى تجعل الإنسان يميل إلى الشّهوات، وطول الأمل يُنسيه الآخرة ويجذِبُه إلى الدُّنيا.
- مصاحبة السفهاء والفجّار.
- ارتياد أماكن المعصية.
- ترك تعاهد القرآن، وعدم الذهاب إلى المساجد والأماكن المقدَّسة.
- ترك مجالسة العلماء وأهل العبادة.
2- سيطرة الشهوات والغرائز على الإنسان:
نقصد بها مجموعة الغرائز والقوى الموجودة في باطن الإنسان التي إن لم يعرفها ولم يسعَ إلى تعديلها فإنّها ستؤدّي به إلى الهلاك الحتمي، والوقوع في المعاصي. فينبغي عليه أوّلاً معرفتها والسعي في تعديلها، بمعنى إخراجها عن حدِّ الإفراط والتفريط، لأنّ عدم ذلك سيؤدّي إلى طغيانها وعدم استقرارها، وهذا ما سيدفع بالإنسان إلى ارتكاب المعاصي.
إنّ هذه القوى الباطنية المودعة في الإنسان قد تؤثّر سلباً أو إيجاباً على سلوكه وعلاقته بالله تعالى، فالله تعالى أوجد في الإنسان "قوّة العقل" وأعطاها جنوداً، وأوجد فيه "قوّة الجهل" أيضاً وأعطاها جنوداً.
فالإنسان في حركته التصاعدية العقلية قد يصل إلى درجة أعلى من درجة الملائكة إذا ابتعد عن الذَّنب بإرادته واختياره وتحكيمه لعقله وسيطرته على غرائزه، وقد يصل في حركته التنازلية من خلال اتّباعه للشهوات إلى درجةٍ يُصبح فيها كالأنعام، بل أضل سبيلاً، كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلً﴾17، وما ذلك إلا لأنّه حكَّم هواه على عقله، واتَّبع غرائزه وشهواته النَّفسية.
العلاج بالطهارة
من أبرز القوى والغرائز النفسية التي منحها الله عزّ وجلّ للإنسان:
1- القوّة الشهويّة:
وهي القوّة التي لا يصدر عنها إلا أفعال البهائم من عبوديّة الفرج والبطن، والحرص على الجماع والأكل. وتوصف بالقوى البهيميّة، لوجودها الأصلي في البهائم. ومن خواصّها أنَّها تُنْزِل الإنسان إلى درجة الأنعام، إن لم يُوجّهها ضمن الضوابط التي حدّدتها الشريعة. وهي من القوى العنيدة التي لا تهدأ بسرعة.
2- القوّة الغضبيّة:
وهي القوّة التي تكون منشأً لصدور أفعال السباع من الغضب والبغضاء والتوثّب على النَّاس بأنواع الأذى. وتمتاز القوّة الغضبيّة بأنّها قوّةٌ تهدأ بسرعةٍ بخلاف القوَّة الشَّهويّة، ومع أنَّها تمتازُ بشدَّتها من ناحيةٍ، لكنّها سرعان ما تهدأ من ناحية أخرى.
والإنسان إذا أطلق العنان للقوّة الشهوية والغضبية ولم يُخضعهما لميزان العقل والشرع فمن المؤكّد أنّها سوف توقعانه في المعاصي والذنوب وتدفعانه إلى مخالفة أوامر الله تعالى. لذا على الإنسان المؤمن أن يُطهّر قلبه وباطنه وجوارحه من مفاسد الشهوات والغضب، وأن يكون شديد الحرص والانتباه كي لا يكون أسير شهوته وغضبه، وأن يجعلهما دائماً في طريق الخير الذي يُرضي الله ورسوله، ولا يجعلهما في طريق الشيطان الذي يُبغضه الله ورسوله.
* كتاب هدى وبشرى، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة الكهف، الآية 49.
2- سورة النساء، الآية 31.
3- سورة النجم، الآية 32.
4- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص278.
5- سورة الكهف، الآية 49.
6- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص27.
7- مولي محمد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي، ج9، ص244، مع تعليقات: الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح: السيد علي عاشور، دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان، دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1421 هـ- 2000م.
8- راجع: الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، ص144. بتصرف.
9- وممّن يذهب إلى هذا الرأي: الشيخ المفيد، وابن البراج الطرابلسي، وأبو الصلاح الحلبي، وابن إدريس الحليّ، والشيخ الطوسي، بل نسبه الطبرسي في تفسيره مجمع البيان إلى أصحابنا مطلقاً.
10- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص168.
11- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص287.
12- م.ن، ص270.
13- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص79.
14- سورة يس، الآية 12.
15- كما سيأتي في الدروس اللاحقة.
16- سورة التوبة، الآيتان 124 - 125.
17- سورة الفرقان، الآية 44.