مركز نون للتأليف والترجمة
◄اللّهمّ مَوْلاي كَمْ مِنْ قَبيح سَتَرْتَهُ وكَمْ مِنْ فادِح مِنَ البَلاءِ أقَلْتَهُ (أمَلْتَهُ) وكَمْ مِنْ عِثار وَقَيْتَهُ، وكَمْ مِنْ مَكُرُوه دَفَعْتَهُ، وَكَمْ مِنْ ثَناء جَميل لَسْتُ أهْلاً لَهُ نَشَرْتَهُ.
مفاهيم محوريّة:
النعم الإلهية: ظاهرة، وباطنة خفية.
من النعم الباطنة: ستر قبائح العباد. والوقاية من البلاء، ومغفرة العثرات، ودفع المكروه، ونشر الثناء.
شرح المفردات:
فادح: أصلها فَدَحَ "الفاء والدال والحاء: كلمة فدحه الأمر؛ إذا عاله وأثقله فدحاً؛ وهو أمر فادح"[1].
أقلته: أصلها قَلَّ: القاف واللام: أصلان صحيحان، يدلّ أحدهما: على نزاره الشيء، والآخر: على خلاف الاستقرار؛ وهو انزعاج... وأمّا الأصل الآخر، فيقال: تقلقل الرجل وغيره؛ إذا لم يثبت في مكان، وتقلقل المسمار؛ قلق في موضعه"[2].
عثار: أصلها عَثَرَ: "العين والثاء والراء: أصلان صحيحان، يدلّ أحدهما: على الإطّلاع على الشيء، والآخر: على الإثارة للغبار"[3]. و"عَثَرَ الرجلُ يَعْثُرُ عِثَاراً وعُثُوراً؛ إذا سقط، ويتجوّز به فيمن يطَّلع على أمر من غير طلبه. قال تعالى: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا) (المائدة/ 107)"[4].
وقيته: أصلها وَقَى: "الواو والقاف والياء: كلمة واحدة تدلّ على دفع شيء عن شيء بغيره. ووقيته: أقيه وقياً. والوقاية: ما بقي الشيء. واتّقِ الله: توقَّه؛ أي اجعل بينك وبينه كالوقاية"[5]. و"الوِقايَةُ: حفظُ الشيءِ ممّا يؤذيه ويضرّه"[6].
مكروه: أصلها كَرَهُ: الكاف والراء والهاء: أصل صحيح واحد يدلّ على خلاف الرضا والمحبّة"[7]. و"قيل: الكَرْه والكُرْه واحد، نحو: الضّعف والضّعف، وقيل: الكَرْه: المشقّة التي تنال الإنسان من خارج في ما يحمل عليه بإكْرَاه، والكُرْه: ما يناله من ذاته وهو يعافه؛ وذلك على ضربين: أحدهما: ما يعاف من حيث الطَّبع. والثاني: ما يعاف من حيث العقل أو الشّرع... وقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) (البقرة/ 216)؛ أي: تَكْرَهُونَه من حيث الطَّبع.. قال تعالى: (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة/ 32)"[8].
دفعته: أصلها دَفَعَ: "الدال والفاء والعين: أصل واحد مشهور يدلّ على تنحية الشيء.
يقال: دفعت الشيء أدفعه دفعاً. ودافع الله عنه السوء دفاعاً"[9].
الثناء: أصلها ثَنَى: "الثاء والنون والياء: أصل واحد؛ وهو: تكرير الشيء مرتين، أو جعله شيئين متواليين أو متباينين؛ وذلك قولك: ثنيت الشيء ثنياً"[10]. "وقيل: الثُّنْوَى والثَّنَاء: ما يذكر في محامد الناس، فيثنى حالاً فحالاً ذكره، يقال: أثني عليه"[11].
دلالة المقطع:
1- قبائح مستورة:
قد يتمكّن الإنسان من أن يخفي بعض الذنوب عن الناس؛ كالذنوب التي يرتكبها في السرّ، ولكنّه لا يستطيع أن يخفيها عن الله عزّ وجلّ؛ لأنّه تعالى بكلِّ شيء محيط. والله عزّ وجلّ هو الوحيد الذي يستر الذنوب؛ وذلك عندما يبادر الإنسان إلى التوبة:
روي عن الإمام الصادق (ع) – حيث سمعه معاوية بن وهب يقول –: "إذا تاب العبد المؤمن توبة نصوحاً؛ أحبّه الله، فستر عليه في الدنيا والآخرة. قلت: وكيف يستر عليه؟ قال: يُنسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب.. فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب"[12].
2- بلاء مدفوع:
إنّ الإنسان مخلوق ضعيف معرَّض للكثير من الابتلاءات؛ من المرض، والمهانة، والفضيحة، وغيرها، وبعض هذه البلاءات قد يكون فادحاً؛ أي عظيماً وكبيراً؛ بحيث يثقل على الإنسان حمله. والله عزّ وجلّ يُقيل الإنسان منه؛ أي يعفو عنه، ويدرأ عنه الابتلاء به:
عن الإمام الصادق (ع): "أمّا إنّه ليس من عِرق يضرب، ولا نكبة، ولا صداع، ولا مرض؛ إلّا بذنب، وذلك قول الله عزّ وجلّ في كتابه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى/ 30)، وما يعفو الله أكثر ممّا يؤاخذ به"[13].
3- زلل ممنوع:
إنّ النفس الأمّارة تدفع الإنسان لارتكاب الأخطاء والمعاصي، والشيطان يزيّنها للإنسان؛ لكي يجعلها في صورة محبَّبة له. ولذا، كان الإنسان مُعرّضاً في حياته للوقوع في المعاصي. ومتى نظر الإنسان إلى ما يمكن أن يصدر منه من ذنوب أدرك رحمة الله به؛ الذي يصونه ويحفظه عن الوقوع بها:
عن الإمام عليّ (ع): "كيف يصبر عن الشهوة من لم تعنه العصمة؟!"[14].
وعن رسول الله (ص): "قال الله سبحانه: إذا عَلِمْتُ أنّ الغالب على عبدي الاشتغال بي؛ نقلت شهوته في مسألتي ومناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك؛ فأراد أن يسهو؛ حلت بينه وبين أن يسهو، أولئك أوليائي حقّاً"[15].
4- مكاره مأمونة:
إنّ الإنسان يكره كلَّ ما يخالف الراحة والدعة ويشقّ عليه، وما من إنسان في هذه الدنيا إلا وهو معرَّض للمكاره، ولكنّ الله يدفع عن الإنسان الكثير منها، فيحول بينها وبين الإنسان؛ أي يصرف عنه الابتلاء بها.
والإنسان يُدرِك ذلك متى رأى تلك المكاره تصيب مَنْ حوله من الناس. ولذا، كان عليه إذا رأى ذلك أن يحمد الله على أن وقاه منها:
روي عن الإمام الباقر (ع): "تقول ثلاث مرّات إذا نظرة إلى المُبتلى من غير أن تُسمِعُه: الحمد لله الذي عافاني ممّا ابتلاك به، ولو شاء فعل. قال: من قال ذلك لم يصبه ذلك البلاء أبداً"[16].
وعن الإمام الصادق (ع): "إذا رأيت الرجل قد ابتُلي وأنعم الله عليك، فقل: اللّهمّ إنّي لا أسخر، ولا أفخر، ولكن أحمدك على عظيم نعمائك عليَّ"[17].
5- صيت حسن:
يحبّ الإنسان أن يكون ذكره بين الناس حسناً؛ فتمدحه الناس وتثني عليه؛ لما هو عليه من الصفات، وقد يكون الإنسان أهلاً لذلك، وقد لا يكون أهلاً له، ومتى وجد أنّ صيته الحسن انتشر بين الناس، واعتقد أنّه ليس أهلاً له؛ فإنّ عليه أنّ يعلم أنّ هذا من عند الله، وعليه أن يشكر الله على ذلك.
والذكر الحسن بين الناس أمر ممدوح؛ شرط أن لا يكون مُوجباً لبطلان العمل؛ أي شرط أن يحذر الإنسان من أن يُبتَلى بالرياء المُبطل له:
روي عن الإمام الباقر (ع): "الإبقاء على العمل أشدّ من العمل، قال الراوي: وما الإبقاء على العمل؟ قال: يصل الرجل بصلة، وينفق نفقة لله وحده لا شريك له؛ فكتب له سرّاً، ثمّ يذكرها؛ فتمحى فتكتب له علانية، ثمّ يذكرها؛ فتمحى وتكتب له رياء"[18].
وفي دعاء أمير المؤمنين (ع) – لمّا مدحه قوم في محضره –: "اللّهمّ إنّك أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللّهمّ اجعلنا خيراً ممّا يظنّون، واغفر لنا ما لا يعلمون"[19].
وعن رسول الله (ص) – في وصية له لأمير المؤمنين –: "إذا أثنِيَ عليك في وجهك، فقل: اللّهمّ اجعلني خيراً ممّا يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون"[20].
ومن هذا المنطلق، فإنّ صاحب التقوى، والمؤمن حقّاً يخاف من الآثار السلبية للمديح، ويواجه ذلك بما وصف به الإمام عليّ (ع) المتقين، حيث قال (ع): "إذا زكّي أحد منهم؛ خاف ممّا يقال له، فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربّي أعلم بي منّي بنفسي! اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل ممّا يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون"[21].
موعظة وعبرة:
أئمّتنا قدوةٌ وأسوة:
رُوي عن الإمام الصادق (ع) قوله: "كان أبي يكره أن يمسح بيده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له، إلّا أن يمصّها، أو يكون إلى جانبه صبيٌّ فيمصّها، قال: فإني أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقّده فيضحك الخادم، ثمّ قال: إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم، كان الله قد وسّع عليهم حتى طغوا، فقال بعضهم لبعض: لو عمدنا إلى شيء من هذا النقي، فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة. قال (ع): فلمّا فعلوا ذلك، بعث الله على أرضهم دواباً أصغر من الجراد، فلم تدع لهم شيئاً خلقه الله إلّا أكلته من شجرٍ أو غيره، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به فأكلوه، وهي القرية التي قال الله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل/ 112)"[22].
وقفة تأمّلية:
التدبُّر في مخاطر العُجُب:
عن الإمام الصادق (ع): "أتى عالم عابداً، فقال له: كيف صلاتك؟ فقال: مثلي يُسأل عن صلاته؟! وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا، قال: فكيف بكاؤك؟ قال: أبكي حتى تجري دموعي، فقال له العالم، فإنّ ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مدلّ، إنّ المدلّ لا يصعد من عمله شيء"[23].
وعنه (ع) أيضاً: "قال رسول الله (ص): بينما موسى (ع) جالساً إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان، فلمّا دنى من موسى (ع) خلع البرنس، وقام إلى موسى، فسلّم عليه، له موسى: من أنت؟ فقال: أنا إبليس، قال: أنت! فلا قرّب الله دارك. قال: إنّي إنّما جئت لأسلِّم عليك؛ لمكانك من الله، قال: فقال له موسى (ع): فما هذا البرنس؟ قال: به أختطف قلوب بني آدم، فقال موسى: فأخبرني بالذنب الذي أذنبه ابن آدم استحوذت عليه؟ قال: إذا أعجَبَتُه نفسه واستكثر عمله وصغر في عينه ذنبه"[24].
إنّ العجب خُلُق رديء يتسلّل إلى النفس من خلال الطاعات والعبادات؛ حيث إنّ الإنسان بفعل التزامه بأدائهما قد يحصل لديه عجب بنفسه، بما تؤدّيه من طاعة وعبادة وأفعال حسنة، ويجد من نفسه القوّة والاستقلال في أدائها والاهتداء إليها؛ ما يؤدّي إلى انقطاعه عن ربّه، واحتجابه عن نور الهداية، وسلبه التوفيق، وبطلان عمله وزوال أثره.
ويحصل الانتباه من هذا الفخ المُهلِك من خلال التفكُّر في النفس، وضعفها، وفقرها، واحتياجها إلى الله تعالى، والتي لولا رحمته ولطفه وعنايته؛ لما تمكّنت من الاهتداء إلى صالح الأعمال.
الهوامش:
[1]- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م. س، ج4، مادّة "فَدَحَ"، ص484.
[2]- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م. س، ج5، مادّة "قلّ"، ص3.
[3]- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م. س، ج4، مادّة "عَثَرَ"، ص228.
[4]- الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م. س، مادّة "عَثَرَ" ص546.
[5]- ابن فارس، معجز ألفاظ القرآن، م، س، ج6، مادّة "وَقَى"، ص131.
[6]- الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م. س، مادّة "وَقَى"، ص881.
[7]- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م. س، ج5، مادّة "كَرَهَ"، ص172.
[8]- الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م. س، مادّة "كَرَهَ"، ص707-708.
[9]- ابن فارس: معجم مقاييس اللغة، م. س، ج2، مادّة "دَفَعَ"، ص288.
[10]- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م. س، ج1، مادّة "ثَنَى"، ص319.
[11]- الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م. س، مادّة "ثَنَى"، ص178-179.
[12]- ابن بايويه، ثواب الأعمال، م. س، ص171.
[13]- الكليني، الكافي، م. س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح3، ص269.
[14]- الليثي الواسطي، عليّ بن محمّد: عيون الحكم والمواعظ، تحقيق حسين الحسيني البيرجندي، ط1، لام، دار الحديث، لات، ص384.
[15]- المجلسي، محمّد باقر: بحار الأنوار، تحقيق إبراهيم الميانجي؛ محمّد باقر البهبودي، ط2، بيروت، مؤسسة الوفاء، 1403هـ. ق/ 1983م، ج90، ص162.
[16]- الكليني، الكافي، م. س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الشكر، ح20، ص97.
[17]- نفس المصدر، باب الشكر، ح22، ص98.
[18]- نفس المصدر، باب الرياء، ح16، ص296-297.
[19]- الشريف الرضي، نهج البلاغة، م. س، ج4، الحكمة 100، ص22.
[20]- الحرّاني، ابن شعبة: تحف العقول عن آل الرسول (ص)، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، ط2، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقمّ المقدّسة، 1404هـ. ق/ 1363هـ. ش، ص12.
[21]- الشريف الرضي، نهج البلاغة، م. س، ج2، الخطبة 193، ص162-163.
[22]- الحويزي، تفسير نور الثقلين: 3/ 91-92.
[23]- الكليني، الكافي، م. س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب العجب، ح5، ص313.
[24]- نفس المصدر،باب العجب، ح8، ص314.
المصدر: كتاب آمال العارفين