إذا مُلئ القلب إيماناً وتصديقاً وفقهاً وإدراكاً لمراد الله، ومراد الذين عصمهم الله عليهم السلام صار القلب مهبط الوحي والأسرار والأنوار، وأخبر صاحبه بما وراءه وأمامه، ونبّهه على أمور لم يكن ليعلمها بشيء دونه يعرف ذلك صاحب كل قلب صالح ذكي ألهمه الله صحة الفراسة الناتجة عن استنارة القلب، والتي يصير القلب فيها بمنزلة المرآة المجلوة حيث تظهر فيها المعلومات كما هي، هذا وقد روي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إذا أراد الله بعبد خيراً فتح عيني قلبه، فيُشاهد بها ما كان غائباً عنه"، وقال حفيده الإمام زين العابدين علي بن الحُسين عليهما السلام: "إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له العينين اللتين في قلبه، فأبصر بهما الغيب في أمر آخرته، وإذا أراد غير ذلك ترك القلب بما فيه".
وهذا ما يُطلق عليه نور عين البصيرة، والذي يتّصل بقضاء الغيب اتصال الشعاع بالزجاجة الصافية حال مقابلتها إلى فيضه، ثم ينصرف نوره منعكساً بضوئه على صفاء القلب، ثم يترقّى ساطعاً إلى عالم العقل فيتّصل به اتصالاً معنوياً له عظيم الأثر في استفاضة نور العقل على ساحة القلب، فيُشرق القلب، وعندها يرى ما خفي عن الأبصار موضعه، ودقّ عن الأفهام تصوّره، واستتر عن الأغيار مرآه، ولا غرابة فإنّ الأمر كما روى مولانا الإمام الصادق عليه السلام عن جدّه أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "وأنّ قلوب المؤمنين مطوية بالإيمان طيّاً، فإذا أراد الله إنارة ما فيها فتحها بالوحي، فزرع فيها الحكمة زارعها وحاصدها"، وقد قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾.
فطوبى لمن جعل بصره في قلبه، فإنّه من الذين عناهم الله بقوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾، على عكس من جعل بصره في عينه، فإنّه يُصيب به حلالاً وحراماً، وقد يعوّده على الحرام والعياذ بالله، وعندها تطبع مرآة بصيرة قلبه بتراكم صدأ الغفلة عن الربّ عزّت آلاؤه، فتتوارى وجوه الحقائق عن بواطن الإفهام، ويمتنع عنها آنذاك إنفاذ نور الإلهام، ولمثل هذا والله أعلم قال السيد المسيح عليه السلام: "طوبى لمن جعل بصره في قلبه، ولم يجعل بصره في عينه" هذا كلامه عليه السلام بعين لفظه، فأمعن النظر فيه، وفيما تلوناه عليك من كلام النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام تجده قد صدر من مشكاة واحدة: ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
طلائع القلوب، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية