القِيَمُ جمع قِيمَة، وجذرُها قَوَمَ، ووردت مشتقاتها في القرآن الكريم حوالي ستمائة وتسع وخمسين (659) مرّة، منها قام وأقام وقيام وقائم وقيُّوم وقِيَم وقَيِّم وقوام وتقويم، في حوالي مائة وستين (160) مرّة، واستقام ومستقيم في سبع وأربعين (47) مرّةً، وقيامة في سبعين (70) مرّة، وقَوْم في ثلاثمائة واثنتين وثمانين (382) مرّةً.
- فالله سبحانه حيٌّ قيُّوم، يقوم بذاته ويستغني عن غيره، ويسوس الأُمور ويسيطر عليها، فهي خاضعة له، (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) (طه/ 111)، وهو سبحانه: (قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) (الرعد/ 33)، فهو بها عليمٌ، ولها حفيظٌ، وعليها رقيب.
- والدِّين القيّمُ الموصل إلى كلّ خير بلا انحراف أو زيغ، وما سواه أديانٌ غيرُ مستقيمة، (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) (الروم/ 43).
- والصراط المستقيم: الواضح الموصل إلى هدفه وغايته دون عناء في الجهد، ودون ضلال في الطريق، (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) (هود/ 112)، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة/ 6).
- والقرآن يهدي للتي هي أقومُ (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء/ 9)، من العقائد والشرائع والأخلاق، فمن اهتدى بهديه كان أقومَ الناس، والكُتُبُ القيِّمة هي الكُتُبُ التي يعدلُها ثمنٌ غال، ومكانةٌ رفيعة، وفائدةٌ كبيرة، وتجمعُ ما في غيرها من الخير.
- وقد خَلَقَ اللهُ الإنسانَ في أحسن تقويم (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين/ 4)، إذ اكتملت في خلقه صفات الحسن في التكوين الجسمي والعقلي والروحي، بما يتناسب والهدف من الخلق والوظيفة في الوجود.
- وكان بين ذلك قَواماً: توسطاً واعتدالاً ورشداً في الأمر بلا إفراط ولا تفريط، (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67).
وهكذا فإنّ جماع المعاني اللغوية في أُصولها القرآنية تشير إلى أنّ الكون كلّه قائم على نظام تتقوّم به أشياؤه وظواهره، وأنّ حياة الإنسان في الكون تتقوّم بمنظومة من القيم تحدّد تصوّراته وعلاقاته وأعماله الظاهرة والباطنة. فكما أنّ الرؤية الكونية عند المسلم تتضمّن نظاماً في الاعتقاد ينشئ تصوّرات الإنسان وعباداته، ونظاماً في المعرفة ينشأ التشريعات والعلاقات، فكذلك تتضمّن هذه الرؤية نظاماً للقيم تتحدّد به دوافع السلوك والعمل.
نظام القيم + نظام المعرفة + نظام الاعتقاد = نظام الإسلام.
وإذا تأمّلنا في الدلالات المختلفة لمجمل الألفاظ القرآنية ذات العلاقة بجذر القيم، فإنّنا سنجدها تتركّز في أربعة مجالات من الدلالة، تتضافرُ وتتعاون في إعطاء الدلالة الكلّية للقيمة والقيم في الاصطلاح القرآني، وهذه المجالات الأربعة هي:
1- الوزن والفائدة والثمن والخيرية، فالأمرُ الذي لا قيمة له، لا وزن له ولا فائدة فيه، أمّا الأكثر قيمةً فهو الأفضل، والأكثر خيراً: (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (الكهف/ 105).
2- الثباتُ والاستقرار والتماسك: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) (الدخان/ 51).
3- المسؤولية والرعاية؛ فالقائم على الأمر مسؤولٌ عن رعايته وإدارة شؤونه: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) (النِّساء/ 34)، والله سبحانه هو: (اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (البقرة/ 255)، وهو سبحانه قائمٌ على كلّ نفس: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) (الرعد/ 33).
4- الاستقامة والصلاح: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (الجن/ 16).
والقيم والأخلاق هي محدّدات وضوابط لسلوك الناس، تُميِّز النوع الإنساني عن غيره من المخلوقات، ولذلك فإنّها ترتبطُ بمتطلبات الاجتماع الإنساني والعيش المشترك، كما ترتبط بالكرامة الإنسانية. وتقع قضايا القيم في القلب ممّا شرّعت له الأديان والفلسفات المختلفة منذ بدء الحياة الإنسانية. ومن ثمّ فإنّ هذه القضايا ليست قضايا نسبية تترك الطريقة التي يتمُّ فيها فهمُها والتعامل معها للقناعات الشخصية، والتوجهات الإيديولوجية للفرد، وليست هي معايير يتمُّ تحديدها والتقنين لها بالأساليب الديمقراطية ليلتزم بها أفراد الجماعة، مع إبقاء الهامش الأكبر لما يمكن أن يعدّ ضمن الحرّيات الشخصية فحسب، وكذلك ليس من الحكمة أن ننفي عن قضايا القيم والأخلاق وجود منطلقات موضوعية عامّة يجمع عليها العقلاء من الناس لخصائص فيها في حدِّ ذاتها.
والقيمُ والأخلاق – في هذا السياق – لا تقتصر على ما كان معروفاً من قضايا الصدق والأمانة والوفاء وأمثالها من الفضائل العامّة، التي تتعلق بسلوك الفرد مع نفسه ومع الآخرين، وإنّما تشمل – بالإضافة إليها – فئاتٍ من القيم الخاصّة بالحياة المدنية؛ من مسؤولية اجتماعية، واحترام الآخرين، وقيم الولاء والانتماء العامّة في دوائره المختلفة على مستوى الشعب والأُمّة والإنسانية، كما تشمل القيم المهنية المتعلقة بالتعامل مع أشياء البيئة وحسن تنظيمها واستثمارها. وعلى هذا الأساس تعدّدت المجالات التي ظهرت فيها فئات القيم، فثمة قيمٌ للحكم والسياسة، وقيمٌ للأُسرة والمجتمع، وقيمٌ للإنتاج والاستهلاك في الاقتصاد، وقيمٌ علمية «أكاديمية» في التعليم، وقيمٌ في التعامل مع البيئة، وقيمٌ إنسانية في التعامل مع الآخرين، وهكذا.
كثيرة هي المصطلحات القرآنية التي تتعلّق بالدلالة المعاصرة لمصطلح القيم، وأهمّيتها في الحكم على السلوك البشري، فإذا كانت الأخلاق وصفاً لسلوك الإنسان، فإنّ القيم معايير لتقويم هذا السلوك، فالإنسان يسلك سلوكاً أخلاقياً محدّداً؛ لأنّه يتبنّى قيماً محدّدة. ونحن نلاحظ أنّ المصطلحات القرآنية ذات العلاقة بالقيم تقع في مستويات مختلفة في العموم والخصوص؛ إذ يمكن تصنيف القيم في فئات حسب معايير متعدّدة:
- فالحقُّ، والعدلُ، والخيرُ، والإحسان، والتقوى هي قيمٌ عليا حاكمة رئيسية، بينما الحياء، والبرّ، والصبر، والعفو، والوفاء هي قيمٌ مشتقة فرعية.
- والعدلُ، والشورى، والحرّية، قيمٌ في البناء السياسي للأُمّة؛ والتكافل، والكرم، والصدقة، قيم في البناء الاجتماعي للأُمّة؛ بينما الشجاعة، والحلم، والصدق، هي قيمٌ في التزكية النفسية للأفراد.
- وقد يكون التصنيف على أساس التمييز بين قيم الأمر وقيم النهي.
- وقد يكون التصنيف على أساس القيم الواجبة والقيم المندوبة.
- وقد تكون «مقاصدُ الشرع» الخمسة نظاماً مناسباً لتصنيف القيم، تندرج تحت كلّ منها قيم فرعية منبثقة عنها.
- والإسلام هو «الدِّين القيِّم» و«دين القيِّمة»، وقد تكرر ذلك في القرآن الكريم ست مرّات، الأمر الذي يسوِّغ القول بأنّ دين الإسلام هو دين القيم الفاضلة، والثابتة. ومن ثمّ فإنّ نظام القيم في الإسلام هو نظام الإسلام بصورته الكلّية العامّة: عقيدة، وعبادة، وشريعة، وأخلاقاً.
- وهكذا...
لكن أي تصنيف للقيم لا يُلغي حقيقة التداخل والترابط بين المعاني والدلالات المختلفة للقيم والفضائل، بحسب زاوية النظر إلى فئات القيم أو إلى أيِّ قيمة مفردة، فقد ترتفع قيمة العدل لتصبح إطاراً لكلّ القيم الأُخرى، وقد ترتفع قيمةُ التقوى لتكون هي المستوى الأعلى. وإذا أخذنا «التوحيد» بوصفه قيمةً إسلامية، فسيكون – من غير شكّ – هو القيمة العليا.
المصدر: البلاغ