د. عمرو شريف
◄مما يلفت الانتباه أن لفظ "العقل" في صيغته الاسمية لم يرد في القرآن الكريم مطلقاً، لكن وردت مشتقاته في صِيغَّه الفعلية، مثل عقلوا ويعقلون وتعقلون ونعقل ويعقل، قرابة خمسين مرة. أما الألفاظ التي تدل على النشاط العقلي بصفة عامة، مثل التفكير والتدبر والعلم والنظر والإدراك والتفكر والتبصر، فقد وردت مئات المرات.
وربما يرجع عزوف القرآن الكريم عن استخدام الصيغ الاسمية إلى اهتمامه بالأفعال ونتائجها أكثر من اهتمامه بالتفاصيل النظرية. كذلك فإن استخدام الصيغة الاسمية يتطلب وضع تعريفاً للعقل، بينما كثيراً ما تفشل التعريفات في تصوير الشيء المُعرَّف تصويراً دقيقاً، لاسيّما إذا اتصل هذا الشيء بحقائق روحية أو نفسية، حتى قالوا "يكمن الشيطان في التعريفات، كما يكمن في التفاصيل". كما يتطلب استخدام الصيغة الاسمية المُعرَّفة تحديد الموضع والعضو الذي يقوم بتلك المهمة، ويبدو من تناول القرآن الكريم – وأيضاً كما أثبت العلم – أنّ هذه قضية شديدة التعقيد.
ومن أجل أن نستخلص موقف القرآن الكريم من العقل، نعرض ثلاثة نماذج من الآيات تدعونا إلى استخدام العقل وإلى التأمل، نحسب أنها كافية لعرض تصورنا عن "موقف القرآن الكريم من العقل" والذي استخلصناه من تأمل جميع الآيات التي ورد فيها ما يدل على العقل:
أ) في تأمل الظواهر الكونية يقول تعالى:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة/ 164).
(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرّعد/ 3-4).
ب) في تأمل الأنفس البشرية يقول تعالى:
(وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات/ 20-21).
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) (الرّوم/ 8).
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصّلت/ 53).
ج) وفي تأمل الظواهر الاجتماعية يقول تعالى:
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة/ 44).
(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرّوم/ 28).
يمكن من تأمل هذه الآيات الكريمة – وغيرها – أن نستخلص عدة ملاحظات حول موقف القرآن الكريم من العقل، أهمها:
أوّلاً: الثقة التي يوليها القرآن الكريم للحواس، بحيث تكون معطياتها دائماً هي منطلق التفكر والتدبر للاستدلال على الصانع المنعم. وهذا يدل كذلك على وثاقة الارتباط بين كلٍ من الحواس والعقل.
ثانياً: الوضوح والبساطة فيما تأمر به الآيات من عمليات التفكير والتدبر والتعقل، كأنّها أمور لا تحتاج إلى تفكير عميق، أو بحث غامض، أو تحليل معقد (كمنهج الفلسفة والمنطق علم الكلام)، وإنما هي تُدرَك إدراكاً مباشراً أشبه ما يكون بالبهديهيات العقلية.
ثالثاً: يمثل العقل ميزة فريدة وضعها الله – عزّ وجلّ – في الإنسان؛ به يَعرف ثمّ يعمل، ومن هنا كانت مسؤولياته.
رابعاً: أنّ العقل الذي يتحدث عنه القرآن الكريم ليس عقلاً مجرداً، أو جوهراً قائماً بذاته (كما يعتقد الفلاسفة)، وإنما هو ظاهرة أو طاقة أو مَلَكة تمثل قدرة إلهية في الإنسان، زوده الله تعالى بها ليستعملها في حدودٍ رسمها له ونبهه إليها. وبها يصبح العقل الإنساني – في القرآن الكريم – عقلاً واعياً بطاعة الله عزّ وجلّ، فيأتمر عن طواعية بما أمر الله تعالى به.
خامساً: إنّ العقل البشري لا يصلح أن يكون حَكَماً في كلّ شيء، ويتوجه هذا الحَجْر إلى بضعة أمور:
1- أمور لا يدركها العقل الإنساني، كالذات الإلهية، فليس مما يعرفه العقل شيء يماثلها، حتى يمكن أن يقيسها عليه.
2- أمور لا تدخل في حدود الطبيعة البشرية المحددة، كحقيقة الروح.
3- أمور لا تلزم للنهوض بوظيفة الإنسان في الوجود؛ كالغيب المحجوب عن العلم البشري، ومثاله موعد يوم القيامة.
ويبين الحق سبحانه كيف ينبغي تلقِّي مثل هذه الأمور، التي هي فوق مدركات البشر:
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران/ 7-8).
وفيما عدا هذه الجوانب، فإنّ العقل البشري مدعو للتدبر والتفكر والاعتبار، والتطبيق في عالم الضمير وعالم الواقع في إطار منهج الإسلام. وما من دين – أو منهج وضعي – احتفل بإيقاظ الإدراك البشري، وإطلاقه من قيود الوهم والخرافة، وصيانته في الوقت ذاته من التبدد، كما فعل الإسلام.
سادساً: إنّ العقل ينبغي أن يتحرك من أجل ثلاث غايات متداخلة متلازمة؛ غاية إيمانية، وغاية معرفية، وغاية سلوكية حياتية. ومجال حركته ثلاثة جوانب متداخلة: الظواهر الكونية – الأنفس – الظواهر الاجتماعية.
إنّ المنهج الذي يرسمه القرآن للعقل للنظر والتدبر، هو الانتقال من الجزئيات إلى الكليات، أو تحليل الكليات إلى جزئياتها ثمّ الانتقال من ذلك إلى التركيب (الخروج بمفاهيم جديدة)، أو أي طريقة أخرى يكتشفها العقل لنفسه دونما قيد عليه أو حَجْر. وبهذا المعنى فإنّ القرآن الكريم يحفز العقل البشري إلى النظر في الآفاق والأنفس والمجتمعات بأي منهج علمي، مهما تعددت المناهج ومهما تَسَمَّت العلوم بأسماء متشابهة أو متباينة.
سابعاً: يقرر القرآن الكريم ان من يعطل طاقة العقل الممنوحة له ينزل إلى مرتبة دون مرتبة الحيوان.
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (الأنفال/ 22).
كما يقرر القرآن أن جزاء معطل العقل هو السعير.
(وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ* فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك/ 10-11).
ثامناً: لم يكتف القرآن الكريم بحَثِّ العقل على العمل وترك التقليد والجحود، لكنه أثار أمامه عدداً من المسائل والقضايا الحيوية، وعالجها كنماذج لما ينبغي أن يكون عليه أداء العقل للقيام بالرسالة المنوطة به. وأهم هذه القضايا بالطبع قضية الاستدلال على خالق الكون دون وقوع في المحظور؛ الذي هو البحث في كنه الله وفيما اختص به نفسه. ومن هذه القضايا أيضاً الخلافات الجوهرية مع أرباب الملل والنحل الأخرى، كدعوى ألوهية عيسى (ع).
تاسعاً: ربما كانت أقرب الآيات إشارة لموضع عملية التعقل هي قول الحق – عزّ وجلّ –: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج/ 46)، وتشير الآية إلى أن للقلب دوراً في عملية التعقل. ولنا في هذه الآية تأويلان؛ إما أنها لا تقصد العضلة الكائنة في الجانب الأيسر من تجويف الصدر والتي تضخ الدم لأجزاء الجسم، بل تشير إلى "الجوهر" المدرك المتعقل في الإنسان، وأنّ الآية قد استخدمت كلمة قلب لوصف هذا الجوهر. ون أنّ الآية تشير إلى العضو التشريحي المسمى بالقلب، وفي هذه الحالة لا تتعارض الآية مع معارفنا العلمية، إذ إنّ الشواهد العلمية الحديثة تتجمع منذ قرابة ثلاثة عقود على أنّ لهذا القلب دوراً في المنظومة المعرفية والشعورية للإنسان.
وبعد هذا العرض لموقف القرآن الكريم من العقل، هل لي أن أتساءل: أمن سوء الفهم أو من سوء القصد أن يُرمَى القرآن الكريم بأنّه مُعَوِّق للفكر مقيد لحريته، أو القول بأنّ النظر العقلي عند العرب كان محاولة لتكميل القرآن في الجانب الذي قَصَّرَ فيه؟! لا شك أن تلك دعاوي باطلة.►
المصدر: كتاب ثمّ صارَ المخُّ عقلاً